سيلين في المحرقة «الفرنسية»!

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد مرور خمسين عاماً على رحيل الكاتب الفرنسي الشهير لوي فيرديناند سيلين، يعود شبحه إلى المشهد الثقافي الفرنسي من جديد. رجل واحد، هو الذي أعاد إلى ألأذهان فكرة معاداة السامية، قميص عثمان الأوروبيين، سيرج كلارسفيلد، رئيس «جمعية أبناء وبنات اليهود المرحلين من فرنسا» الذي قدم اعتراضاً إلى رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي، طالباً منه إلغاء الكاتب والروائي الشهير سيلين من قائمة المكرمين، قائلاً «إن عبقرية سيلين يجب ألا تنسينا بأنه الرجل الذي طالب بقتل اليهود أثناء الاحتلال النازي لفرنسا». وسرعان ما انصاع وزير الثقافة فردريك ميتران إلى هذا الطلب، مبرّراً حذف صاحب «رحلة إلى أقاصي الليل» من الاحتفالات، قائلاً: «كان إعادتي لقراءة روايته» لا شيء من أجل مجزرة‬1937 كافياً لاقتنع بفكرة إلغاء اسمه من الاحتفالات».

وهنا نتساءل:

هل من الطبيعي أن تنصاع دولة كبيرة مثل فرنسا، لها تاريخ عريق في الديمقراطية، إلى جمعية معروفة بميولها الصهيونية؟

ففي الأمس، أي في عام ‬1998، وبالطريقة ذاتها، قامت رابطة «ليكرا» أي الرابطة العالمية لمكافحة العنصرية ومعاداة السامية، وهي مركز اللوبي الصهيوني في فرنسا، برفع قضية ضد المفكر والفيلسوف روجيه غارودي، عن كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية» والذي ترجم إلى ‬29 لغة عالمية، وحوكم وأدين بموجب قانون غيسو ــ فابيوس، السيئ الصيت، بالسجن والغرامة المالية، وكنا قد تفردنا بتسجيل وقائع جلسات هذه المحاكمة ليس في الصحافة العربية بل والصحافة الفرنسية والعالمية (صدر الكتاب:هذه وصيتي إلى القرن الـ ‬21 حوارات وجلسات المحاكمة ‬1998: عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ‬2007.

والسيناريو ذاته يتكرر مع الروائي سيلين.

سؤال طرحه نخبة من المثقفين الفرنسيين، وهم لا يتفقون مع فكرة إقصاء عملاق روائي مثل سيلين، قُسمت الرواية الفرنسية ما بعده وما قبله، ويُقارن عمله الفذ «رحلة إلى أقاصي الليل» برواية «يوليسيس» لجيمس جويس، ورواية «البحث عن الزمن الضائع» لمارسيل بروست. بل ويتخطى تأثيره حدود فرنسا وأوروبا حيث يعترف الكاتب الياباني (كنزا بورو أوي) بتأثيره على أدبه ويشهد له أحد أعظم كتاب أمريكا اللاتينية (ماريو بارغاس يوسا) بأنه أحد معلمي الرواية العظام في القرن العشرين.

ردود أفعال المثقفين الفرنسيين تضاربت: فيليب سولرز، قال «إن القرار شكل صدمة لي»، واستشهد بقول همنغواي الشهير «عندما تسئ الأمور، يصبح الأدب على جبهات القتال». وأضاف «إن وزير الثقافة الفرنسي أصبح وزيراً للرقابة». وقال الفيلسوف بيرنارد ـــ هنري ليفي «إن هذا التكريم يمكن أن يكشف عن الغموض الذي يصنع كاتباً عظيما ورجلاً حقيراً في آن واحد» ـــ وهذا الفيلسوف معروف بمواقفه الصهيونية. والفيلسوف الن فانكلكروت، قال «لا أعتقد أن كاتباً بحجم سيلين لا يمكن أن يكون بين صفوف المكرمين بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيله. فهذا القرار يحمل نتائج وخيمة لأنه سيعطي الحجة إلى الفكرة القائلة إن ــــ اللوبي اليهودي ــــ لا يزال يتحكم في السياسة الفرنسية».

في الواقع، هناك الكثير من الأفكار الخاطئة حول هذا الكاتب ومواقفه، فقد صرح: «إنني لم أكتب أي شيء عن اليهود... كل ما قلته هو أن ــــ اليهود يدفعوننا للحرب ــــ .كانت لديهم حرب مع هتلر ونحن لا دخل لنا بذلك، ولكننا أدخلنا إليها. لدى اليهود حرب المناحة والفجيعة منذ ألفي عام وهتلر أعطاهم المزيد من هذه المناحة والفجيعة». (مجلة أيفرغرين مجلة العدد ‬19/ )‬1961.

سيلين المسافر أبداً في أقاصي الليل، دفع ثمن مواقفه أثناء حياته وبعد رحليه، بل وبعد مرور خمسين عاماً على رحيله مثلما دفع الثمن غارودي، مهملاً على فراش المرض، لا يسأل عنه أحد. الصهيونية تضع رفات سيلين في المحرقة من جديد، لكي يتفرج أنصارها على نيرانها في وضح النهار.

Email