من التقسيم إلى البنطلون والتنورة

ت + ت - الحجم الطبيعي

اختلفت الروايات عن أسباب جلد فتاة سودانية الأسبوع الماضي في أحد مراكز بوليس العاصمة الخرطوم، إذ رجح من شاهدوا فيديو الجلد على موقع يوتيوب، وشاهده العالم كله بالطبع، أن الفتاة ارتدت بنطلون الجينز سهواً ووقعت بيد شرطيين فاسدين تسليا عليها بالجلد والإهانة، في حين أصرت مصادر عليمة على أن المذكورة جلدت لارتدائها تنورة قصيرة (فوق الركبة من دون تحديد المسافة بالسنتيمتر) وضيقة، وفق اجتهاد موظف الأمن، الذي شُبه له أنها ربما تكون مرتبطة بشبكة دعارة، ما استوجب تطبيق حد الجلد عليها لكونها غير محصّنة، والحمد لله، فلو كانت، لرجمت ودفنت في ليل أكحل بهيم.

بعض الإخوة السودانيين ممن راعهم مشهد التعذيب الوحشي للفتاة، استنكروا فعلة رجال الأمن، مطالبين بالتريث لحين انتهاء السلطات من تحقيقاتها مع العناصر المتورطة، من دون التشكيك في قانونية العقاب المستند إلى المادتين ‬145 و‬155 من القانون الجنائي السوداني الصادر عام ‬1991، واللتين تفرضان الجلد ‬100 جلدة والسجن خمس سنوات كحد أقصى، في حق كل امرأة تثبت إدانتها بممارسة الزنا أو إدارة بيت للدعارة. آخرون غالوا في الدفاع عن النظام، ملمحين إلى أن الفتاة التي لم تبلغ الثامنة عشرة بعد، مسيحية جنوبية استفزت المشاعر العامة والآداب وخرقت القوانين الخاصة بزي النساء السودانيات، ولربما كانت واحدة من الذين سيصوتون بنعم على استفتاء ‬9 يناير لفصل دولة الجنوب.

في العام الماضي نجحت الصحافية السودانية لبنى حسين في تسليط الضوء على قضيتها، بعدما اعتقلت مع ‬12 سيدة أخرى من داخل حفل في مطعم وهن يرتدين البنطلونات الفضفاضة وأزياء أخرى «مخالفة للقانون»، وحكم عليهن بالجلد ‬40 جلدة ودفع غرامة ‬209 دولارات وفق البند ‬152 من قانون العقوبات. لم ينفذ الحكم بالطبع، وفضلت لبنى الحبس على دفع الغرامة متمسكة بحقها في ما ترتدي، رافضة العقوبات المقيدة للحرية في القانون السوداني الذي صدر زمن فورة الإنقاذ.

والحادثة الحالية تكشف عن وجود عشرات وربما مئات حالات التعذيب والتعسف في تطبيق القوانين بحق الفتيات السودانيات، جراء ما يرتدين بشكل مخالف لما اعتبره قادة الإنقاذ، وعلى رأسهم د. حسن الترابي، مخالفا للزي الشرعي أو زي المرأة السوداني الفولكلوري.

الحادثة جاءت أيضا قبيل تصريحين لافتين، الأول للترابي المعزول عن السلطة منذ سنوات والذي اعترف بأخطاء أدت إلى تقسيم السودان، والثاني للرئيس عمر البشير الذي قاد مساعي اللحظة الأخيرة لثني الجنوبيين عن الانفصال كما هو متوقع، باستعداده للتنازل عن الحق في نفط الجنوب مقابل التصويت على الوحدة.

المراجعتان جاءتا متأخرتين جدا، فتطبيق الشريعة من وجهة نظر الترابيين جعلت الجنوبيين متحفزين للانفصال الذي يعد مطلباً لدى البعض منهم، لاعتبارات تاريخية ودينية وعرقية، وهم بالتالي لن تنفع معهم أي محاولات استدراكية من باب سبق السيف العذل، وأي محاولات للمراجعة لن يكون لها أي أثر مقنع لسكان الجنوب للعودة إلى الاندماج أو الارتباط بالدولة المركزية في الخرطوم. كما أن محاولات البشير لإعادة لملمة السودان، أيضا لا تحظى بالمصداقية عند الطرف الآخر، فمع أزمة دارفور، وسيف المحكمة الجنائية المسلط على رقبة البشير نفسه، إضافة إلى عدم جاذبية إعادة الارتباط مع الحكومة السودانية، كانت جميعها معطيات تشجع على الانفصال لا الوحدة.

ولذا فحري بالحكومة السودانية الآن أن تستعد لمعركة انفصال الجنوب، وتتجنب قنبلة أبيي، وأن تعيد صياغة الحكم في الإقليم الشمالي ليكون أكثر ديمقراطية وتسامحاً، بدلا من ملاحقة مرتديات البنطلون والتنورة.

 

 

Email