رسلٌ منسيون

ت + ت - الحجم الطبيعي

الشيخوخة كنز الحكمة ونور الله، أجمل الأبيات وأكثرها بهاء ورزانة في قصيدة العُمر، نُضج العقل والخبرات على محك الحياة والتجارب، من بؤرة ما في الذاكرة تومض حكاياتهم وقصصهم وأحلامهم، التي كانت غضة ذات يوم، وآمالهم الفتية وشجنهم في بحر الوقت وعُزلة طويلة تحتاج من يُبددها، ويمسح بالكف وراحة الرأفة وخفض جناح الذل في جنابهم فيُسعد قلوبهم الدافئة.

المُسنون رُسل الحياة المنسيون؛ الرجال الذين كانوا يوماً شباباً يملأون الدنيا بالحياة، ونساء كن شمعات مضيئة مُتقدة، زهرات العمر المتفتق، نبع الحنو في أبهى صوره، فدارت عجلة الزمن، في مرحلة طبيعية على كل إنسان اجتيازها.

تومضُ الصور، تنبش في مكان ما من الذاكرة، ترى همهمة لمُسن وشرود حيادي في عينيه وقد أخذت السنوات من روحه ومن جسمه ومن مداركه الكثير، يومئ إليك بتلك الإيماءة المُجترحة من الزمن والضعف والكبر، تود لو تهبهُ حرارة الحياة وتقبض بشكل إبداعي على تلك اللحظة، كما فعل الكثير من المُبدعين، حين لامسوا شغاف تلك القلوب الكبيرة، ومن ضمنهم الروائي الراحل مؤنس الرزاز في رواية »الذاكرة المستباحة« التي استطاع فيها نقل مشاعرهم في دار للرعاية وسرد تفاصيل تلك الذاكرة في اجتياز نحو عالم الشيخوخة عبر حس إنساني وإبداعي مرهف.

ذاكرة المُسنين حافلة وثرية إذا وجدت من يسبر أغوارها ويتفهم ذلك الشجن، فهم مخزون المرويات الذي لا ينضب وحكايات الحياة في عز الأزمنة، فمُباسطتهم والحديث معهم جزء من إكرامهم وأدبيات الرفق، تماماً كما قال عروة ابن الورد: أحدثه إن الحديث من القرى/ وتعلمُ نفسي أنه سوف يهجعُ.

كما أن تغيرات هذه المرحلة على العقل والبدن والروح تفرض حساً فردياً عالياً ومنظومة مُجتمعية مُتكاملة تجبر شرخ السنين وتُرممُ الذاكرة الغنية الحاضرة الثرية بالحكايات والألق، فرعاية المُسنين والاهتمام بهم ملمح قوي لتقدم الأمم والدول، وفي مُعتقدنا وموروثنا ما يدعو لذلك من خفض لجناح الذل وبسط التوقير والرحمة والرأفة بهم في هذه المرحلة الخاصة، حتى لا ترهقهم الحياة قترا.

Email