توظيف الجنون

ت + ت - الحجم الطبيعي

في أوقات الحروب والأزمات، ترفع الستائر، ويكشف عن المستور في دواخل الناس، وكلٌّ يروح يدلي بدلوه في لحظة غضب أو رضى، أو فرح وحزن، أو أمل ويأس بشأن القضايا والأحداث الراهنة.. فتتحول الصفحات الورقية والإلكترونية إلى فسيفساء من العبارات الملوّنة بالأهواء والأفكار..

لكن ما يجري في الفضاءات الإلكترونية تحديداً بما هي وسائط تواصل حية ومباشرة على مدى الساعة، من دفق هائل للمدونات والصور وشرائط الفيديو، جعل من هذه الساحة الافتراضية، مكاناً حافلاً بالمعارك والمواجهات الحقيقية، بين مختلف الأفكار، التي تحولت في أحايين كثيرة إلى تجييش غرائزي يستغل العواطف الفطرية، ويتبنى أفكاراً إلغائية، من خلال ترويج مقالات وأشرطة أو تسجيلات صوتية، هدفها الأساس خلق أعداء وهميين واعتبار قتالهم القضية الأقدس.

هكذا ووسط هذا الجنون، يغيّب العدو الحقيقي لشعوبنا، ومن يكيدون لها المكائد، وتغدو قضايا الاستعمار والاحتلال ونهب ثروات شعوبنا وبلداننا، في أسفل سلم الأولويات، طالما أن الصراعات الطائفية والإثنية هي ما ينبغي حسمها بالدماء والأموال والدمار والخراب.

وإذا تسنّى لأحد منا ممن يتمتع بهدوء الأعصاب، والنظر برويّة إلى الأمور، سيرى بأم العين ماذا يحدث من انفلات أعمى في التعبير، فتغدو العبارات النابية، والأفلام المتبادلة، ذرائع و«حجج» لقمع الرأي الآخر أو محاولة إرهابه.

واللافت أن من يشارك في هذه القلاقل، ليس فقط العامة ممن يسيّرون كالقطعان، بل من يدّعون أنهم من نخبة الكتاب والمثقفين، حيث تُوظَّف اللغة، ويكون لها الأثر المدوّي في إيصال الرسائل إلى الآخرين، فتمتزج جماليات الفصاحة بالمرامي المسمومة، وتحقق الهدف بانتشارها مثل النار في الهشيم.

وهذه النار في الهشيم، من العبارات التي لا أستسيغها شخصياً، لكنها تفرض حالها أحياناً في مسار الأحداث الفالتة من عقالها.

Email