انتصار للحياة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في هذه الأيام الصعبة، بالنسبة للكثيرين في أماكن عديدة من العالم العربي، تبحث القلوب المكلومة والنفوس الجريحة عن مصدر للعزاء، ولعل في الفكر الصوفي الإسلامي، الذي يضرب جذوره في قرون عدة، ما تنشده العقول والقلوب، في مواجهة طوفان الأحزان الذي يجتاح الأرض العربية.

أول ما يلفت نظرنا في هذا الفكر الصوفي، هو تكريسه لفهم جدير بالالتفات للعلاقة بين الحياة والموت، وهو فهم يعد، في جوهره، انتصاراً للحياة بامتياز.

الموت في اصطلاح الصوفية قمع هوى النفس، لأن حياتها به، ومن هنا يعلمنا الجرجاني أن من مات عن هواه فقد حيي بهواه، ويقول التهانوي إن الموت عند الصوفية هو الحجاب عن أنوار المكاشفات والتجلي.

المصدر الأول للصوفية هنا كلمات الحق عز من قائل: ((أوَ من كان ميتاً فأحييناه))، يعني ميتاً بالجهل فأحييناه بالعلم.

لاحظ هنا أن هذا الفهم للموت ليس منقطع الصلة عن فهم الفلاسفة اليونانيين القدامى، فقد كان أفلاطون هو القائل: «مت بالإرادة تحيا بالطبيعة».

ويدهشنا تصنيف الصوفية للموت، فهم يسمون مخالفة النفس بالموت الأحمر. والموت الأبيض عندهم هو الجوع، لأنه ينور الباطن ويبيض القلب. ويعلمنا الكاشاني أنه إذا لم يشبع السالك، بل ظل جائعاً، مات بالموت الأبيض، فحينئذ تحيا فطنته لأن البطنة تميت الفطنة.

والموت الأخضر عندهم لبس المتواضع من الثياب، والسالك إذا اقتنع بهذه الثياب، فقد مات الموت الأخضر، لاخضرار عيشه بالقناعة ونضارة وجهه بنظره الجمال الذاتي الذي حيي به، واستغنى عن التجمل العارض.

ولعل في هذه الكنوز الفكرية، المنتمية إلى صميم تراثنا، ما يعيد إلى النفوس هدأتها في زمن لا يدري فيه مقتول من قاتله ولا لماذا قتله، كما عبر صلاح عبد الصبور يوماً.

Email