تلاعب شركات التكنولوجيا والعملات الرقمية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كان إفلاس بورصة العملات الرقمية المشفرة FTX، الواقعة الأحدث في تاريخ طويل من الخداع المالي الأمريكي، حدثاً غير عادي. وقال خبير إعادة هيكلة الشركات جون راي الثالث، الذي يشرف الآن على إفلاس FTX، «لم أر طوال حياتي المهنية مثل هذا الفشل التام لضوابط الشركات والغياب الكامل للمعلومات المالية الجديرة بالثقة كما حدث هنا».

كان انهيار بورصة FTX هو الواقعة الأحدث في قطاع انهالت عليه الضربات منذ أبريل 2021، عندما انخفضت قيمة العملات الرقمية لأول مرة. بعد أن اقتطعت الأسواق 89 مليار دولار من القيمة السوقية لأسهم شركة ميتا (Meta)، أعلن رئيسها التنفيذي مارك زوكربيرج أنه يعتزم التخلص من 13% من قوة العمل في الشركة (11 ألف شخص). ثم في غضون أيام من استيلاء إيلون ماسك على شركة تويتر، التي اشتراها ــ على سبيل التسلية كما يبدو ــ مقابل 44 مليار دولار، بدأ كثيرون يشعرون بالخوف على مستقبل المنصة.

الواقع أن الأفراد من غريبي الأطوار الذين يمتلكون مليارات الدولارات، ويرغبون في بناء إمبراطوريات من الشركات (بما في ذلك المؤسسات الخيرية)، ليسوا غريبين على الولايات المتحدة. عندما كنت أقرأ عن سام بانكمان فرايد، مؤسس بورصة FTX ورئيسها التنفيذي السابق، تذكرت «حروب إيري» (صراع من القرن التاسع عشر بين الممولين الأمريكيين للسيطرة على شركة إيري للسكك الحديدية) في أواخر ستينات القرن التاسع عشر، عندما سعى ممولون من أصحاب الكاريزما، ويتمتعون بالقدرة على الوصول بسهولة إلى مبالغ هائلة من رأس المال والائتمان، إلى بناء أولى شركات الأعمال الكبرى في الولايات المتحدة: السكك الحديدية العابرة للقارات. وقد بنيت السكك الحديدية، ولكن ليس من دون إهدار مالي كبير ومكائد بين الشركات.

في قلب الأمر برمته كان جاي جولد، أعظم مشغل مالي في تاريخ الولايات المتحدة. في عام 1868، عمل جولد الشاب الذي وصل حديثاً إلى وول ستريت على استغلال العميد البحري الـمُـسِـن كورنيليوس فاندربيلت، الذين جنى ثروته من صناعة السفن البخارية. بعد الحرب الأهلية، بدأ فاندربيلت يشتري أسهم سكك نيويورك سنترال الحديدية، على أمل السيطرة عليها.

لإخفاء نواياه، اشترى فاندربيلت الأسهم بالوكالة. لكن دانييل درو، أحد المضاربين في وول ستريت، بلغه الخبر. قام درو، مدير شركة إيري للسكك الحديدية المنافسة، بإقراض نفسه أسهم إيري، والتي استخدمها كضمان لشراء أسهم نيويورك سنترال. قرر فاندربيلت، الذي استشاط غضباً لأنه اضطر إلى دفع المزيد لشراء نيويورك سنترال، عقد صفقة مع درو وعمل على المزايدة على أسهم شركتي السكك الحديدية في ذات الوقت.

سرعان ما عـمد درو، راعي الماشية السابق الذي كان يطعم قطعانه الملح حتى تشرب المزيد من الماء وتكتسب وزناً أكبر، إلى خيانة فاندربيلت، فانضم إلى جولد وشريكه جيمس فيسك جونيور. أثناء حروب إيري، لجأ درو وجولد وفيسك إلى إضعاف قيمة أسهم إيري بإصدار شهادات أسهم تتجاوز القيمة المعقولة لأصول السكك الحديدية القائمة. وأصدر قاض من نيويورك خاضع لسيطرة فاندربيلت حكماً ضدهم.

فَــرّ درو وجولد وفيسك من نيويورك حاملين حقائب مليئة بالنقود وأسهم وسندات إيري. أستطيع أن أتخيل الثلاثة وهم يضحكون ويلوحون وداعاً لمانهاتن أثناء انتقالهم إلى جيرسي سيتي في نيوجيرسي ــ تماماً كما فعل بانكمان فرايد وزمرة رفاقه، الذين أصبحوا أصحاب ملايين ومليارات أثناء عملهم بعيداً عن متناول الهيئات التنظيمية من أحد منتجعات جزر الباهاما.

كانت الولايات المتحدة تناضل من أجل العودة إلى معيار الذهب، ولم يكن لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وجود في ذلك الوقت. مع ذلك، خلال هذه السنوات، ونظراً لمركزية أسواق رأس المال الأمريكية أخيراً في مدينة نيويورك أثناء الحرب الأهلية، كانت مؤسسات وول ستريت تفيض بالائتمان، الذي جعل التلاعب والمخططات الفاضحة من جانب جولد ودرو وأمثالهما في حكم الممكن. بالإضافة إلى التلاعب المالي، أفضت قدرة الشركات على الوصول إلى الائتمان السهل إلى تغذية الاستثمار المزدهر في صناعة السكك الحديدية الوليدة في الولايات المتحدة.

كان شبح احتكار الشركات يلوح في الأفق. ولكن لاح في الأفق أيضاً خطر إفلاس الشركات إذا استُـنـزِفَـت الثقة وبالتالي المال من النظام المالي. شهد عصر السكك الحديدية حالتين من الذعر المالي الحاد بشكل خاص، في عام 1873 ثم في عام 1893، وأعقبهما كساد اقتصادي طاحن.

تبدو أوجه الشبه مع الحال اليوم واضحة. فبانتهاز فرصة أسعار الفائدة المنخفضة في تسعينات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحالي، ثم أسعار الفائدة الشديدة الانخفاض التي سادت لأكثر من عقد من الزمن بعد الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، استحوذت شركات التكنولوجيا العملاقة على الأموال الرخيصة لاستخدامها في التهام الشركات المنافسة، والمواهب الهندسية، والبيانات الشخصية، وخنق المنافسة كلما أمكن ذلك. والآن، مع ارتفاع أسعار الفائدة بسرعة، أصبح الائتمان المتاح للمزايدة على الأسهم والعملات الرقمية المشفرة أقل.

ليس من الواضح ما إذا كانت العملات الرقمية المشفرة تقدم أي خدمة عامة أساسية، وإن كنت أتفق مع حكم ماسيمو أماتو ولوكا فانتشي من جامعة بوكوني بأن العملات الرقمية المشفرة، في تحدي النظام النقدي العالمي الحالي، «تطرح السؤال الصحيح، لكنها تعطي الإجابة الخاطئة».

* أستاذ في قسم التاريخ ولجنة الفِـكر الاجتماعي في جامعة شيكاغو ومؤلف كتاب «عصور من الرأسمالية الأمريكية: تاريخ الولايات المتحدة»

Email