حوكمة من أجل اقتصاد سليم

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يشهد عالَـمنا تحولاً اقتصادياً يتطلب تدابير حكومية فَـعّـالة على العديد من الجبهات لإدارة تغير المناخ، وضمان الصحة العامة، وإعادة بناء طبقاتنا المتوسطة من خلال الوظائف الجيدة والإبداع. ولكن هل حكوماتنا قادرة على ذلك حقا؟

يكاد التشكك يكون عالمياً في ما يتصل بقدرة الحكومات على قيادة وتحقيق التغيير الإيجابي. ربما تكون هذه الشكوك في محلها. فقد اجتاح الاستقطاب والشعبوية الاستبدادية ــ وكل منهما يعزز الآخر ــ المجال العام في العديد من بلدان العالم وتسببا في تقويض قدرة المجتمعات على تنظيم تدابير جماعية، على المستويين المحلي والمتعدد الأطراف، ضد مشكلات مشتركة.

علاوة على ذلك، يتمثل تخوف قائم منذ أمد أبعد بشأن قدرة الحكومات في أنها لا تملك المعلومات الكافية ولا القدرات اللازمة لتحقيق تغيير بنيوي إيجابي في الاقتصاد. وفقاً لهذه الحجة، إذا أعطيت الحكومات قدراً أعظم مما ينبغي من السلطة، فسوف توجه الموارد نحو الأماكن الخطأ وتتحول إلى أدوات أسيرة للمصالح الخاصة. تكمن هذه الحجة في قلب النيوليبرالية، ومن الأهمية بمكان التغلب عليها لإنجاح أي نموذج يخلفها ــ مثل الإنتاجية.

يدرك حساب أكثر دقة لقدرات الحكومة أنها ليست موروثة ولا ثابتة. بل بمجرد تحديد الأولويات المناسبة، تتطور القدرات بمرور الوقت من خلال الخبرة، والتعليم، وبناء الثقة مع الكيانات الخاصة. عندما يتعلق الأمر بالموظفين العموميين، فإن السؤال المهم هنا ليس «هل نملك القدرة؟» بل «هل وضعنا الأولويات الصحيحة والطريقة الصحيحة للحكم؟»

قد يقول المشككون إن هذا يبدو جيداً من الناحية النظرية، لكنه يظل غير قابل للتطبيق في الممارسة العملية. ما عليك إلا أن تنظر حولك، وسوف تجد إخفاقات الحوكمة العامة في كل مكان تقريبا ــ على المستويات المحلية، والوطنية، والعالمية. ولكن في حقيقة الأمر، كما يُـظـهِـر تشارلز سابل من كلية الحقوق في جامعة كولومبيا وديفيد فيكتور من جامعة كاليفورنيا في سان دييجو، في كتاب جديد، فإن نماذج الحوكمة الفَـعّـالة قائمة بالفعل وقد أحدثت فارقاً كبيراً. الممارسة موجودة؛ لكن النظرية هي المنقوصة.

يركز سابل وفيكتور على تغير المناخ، وهو تحدي السياسات الأعظم في عصرنا، والذي يُـعَـد أيضاً منطقة يصعب حكمها بشكل مضاعف: فلا يكفي أن تكون الضوابط التنظيمية فعالة على المستوى الوطني فحسب؛ بل يجب أن يجري التفاوض عليها عالمياً بين دول ذات مصالح وظروف مختلفة.

يبني سابل وفيكتور حجتهما على مثال بروتوكول مونتريال لعام 1987، الذي نجح في كبح جماح المواد الـمُـسـتَـنفِـدة للأوزون إلى الحد الذي أصبحت معه طبقة الأوزون الآن في طريقها إلى التعافي الكامل. منذ البداية، بدا استنفاد الأوزون وتغير المناخ وكأنهما تحديان متشابهان، لأن كل منهما ينطوي على قدر كبير من عدم اليقين العلمي والتكنولوجي وفوارق كبيرة بين مواقف الاقتصادات المتقدمة والنامية. لهذا السبب، اتخذت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ في عام 1992 ــ أول اتفاقية عالمية بشأن المناخ ــ من بروتوكول مونتريال نموذجاً لها.

بدأ كل من بورتوكول مونتريال واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ كنظام «ضعيف» للغاية، يعتمد على تعهدات مطلقة بخفض الانبعاثات ــ من المواد المستنفدة للأوزون ثم انبعاثات الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي على التوالي ــ بحلول تاريخ معين، ولكن في غياب أي محتوى تشغيلي ذي بال. لكن النظامين تطورا بشكل مختلف للغاية. ففي حين أحرز بروتوكول مونتريال تقدماً مطرداً من خلال الجمع بين الشركات والحكومات للتصدي لمشكلات تكنولوجية ملموسة، انتهت الحال باتفاقيات تغير المناخ في كثير من الأحيان إلى التوقف عند مرحلة المفاوضات العالمية.

يلفت سابل وفيكتور الانتباه إلى اختلاف رئيسي بين النظامين: فقد أنشأ بروتوكول مونتريال لجاناً قطاعية حيث انضمت الشركات التي تطلق للمواد المستنفدة للأوزون إلى الهيئات التنظيمية الوطنية والعلماء في البحث عن بدائل تكنولوجية. بدأت هذه المجموعات صغيرة، لكنها توسعت وتكاثرت مع تراكم المعرفة، واكتساب القدرات، وبناء الثقة بين الأطراف. لقد نجح هذا النهج لأن حل المشكلة الفعلي جرى تحويله إلى الجهات الفاعلة المحلية ــ على وجه التحديد الشركات التي تمتلك الدراية التكنولوجية المطلوبة. وعندما كان الإبداع يتوقف، كان الحل يكمن في أعادة تعيين الأهداف. وكانت النتيجة حلقة حميدة من الإبداع على الأرض وتحديد الأهداف على أعلى مستوى.

على النقيض من ذلك، في ظل نظام المناخ، أُبـعِـدَت الشركات عن الهيئات التنظيمية، نظراً للمخاوف من استيلائها على العملية برمتها. لكن هذا عمل على ترسيخ تضارب المصالح وعرقلة الإبداع والابتكار.

الواقع أن بروتوكول مونتريال ليس الحالة الناجحة الوحيدة لما يسميه سابل وفيكتور «الحوكمة التجريبية». فبوسعنا أن نجد أمثلة إضافية عبر مجموعة واسعة من البرامج الوطنية ودون الوطنية، من هيئة المشاريع البحثية المتقدمة في الولايات المتحدة إلى نظام مراقبة التلوث الزراعي في أيرلندا. في كل من هذه الحالات، يقترن التجريب على الأرض بتحديد الأهداف على مستوى أعلى. وكانت الممارسات الناجحة الناشئة عن هذا التعاون تكتسب الطابع الروتيني بعد ذلك من خلال نشرها على نطاق واسع ووضع المعايير التي تحكمها.

ولا تقتصر قصص النجاح على بروتوكول مونتريال. فقد جرى تصميم هيئة المشاريع البحثية المتقدمة على غرار هيئة المشاريع البحثية الدفاعية المتقدمة، وهي الوكالة الأميركية المسؤولة عن بعض أبرز الابتكارات في عصرنا، بما في ذلك الإنترنت ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS). على المستوى المحلي، تتخذ أكثر المبادرات نجاحا في تنشيط المجتمعات وخلق الوظائف هيئة التعاونيات بين القطاعين الخاص والعام والتي تجمع بين برامج التدريب، والشركات، والمجموعات غير الربحية، والمسؤولين العموميين، لخلق مسارات جديدة للفرص الاقتصادية. كما تتخذ السياسات الصناعية الوطنية الفَـعّـال نهجاً تعاونياً متعدد القطاعات مماثلاً.

كما يوضح سابل وفيكتور، تبدأ الاستراتيجية العامة في كل هذه المجالات بأهداف طموحة وغير محددة بوضوح بعض الشيء. ويتعين على قادة البرامج أن يدركوا حالة عدم اليقين العميقة، وبالتالي احتمال وقوع أخطاء وبدايات خاطئة. يجب أن يكون هناك ما يحفز الأطراف التي تمتلك المعلومات الأكثر تفصيلاً ودقة ــ الشركات عادة ــ للبحث عن حلول، وهذا يعني أن الهيئات العامة يجب أن تعمل على إنشاء مزيج من العصا (التهديد بفرض التنظيم) والجزرة (الحوافز والمدخلات العامة).

ولأن النجاح يعتمد على عمليات إعادة التقييم والمراجعات المتكررة، فإن تحديد المعالم ومراقبة التقدم من الممارسات الشديدة الأهمية. عندما تنشأ الحلول، يمكن تعميمها في هيئة معايير أو ضوابط تنظيمية. ويكمن الإبداع في قلب هذه العملية، لأن مستويات المعيشة الأعلى (بما في ذلك البيئة الأكثر نظافة والوظائف الأفضل) لن تتأتى إلا من خلال الإنتاجية المحسنة.

يختلف هذا النوع من صنع السياسات اختلافاً كبيراً عن الأساليب الرائجة. ومن منظور الحوكمة التجريبية، لا تشكل ثنائية «الدولة مقابل السوق» أي أهمية ببساطة. إذ تكمل الدولة والسوق بعضهما بعضا ولا ينقسمان إلى فرعين منفصلين. ويصبح نموذج أهل الاقتصاد المعياري الذي يجري من أعلى إلى أسفل ويعتمد على وكيل رئيسي غير مفيد.

لضمان النجاح، يجب أن يتجاوز أي نموذج جديد، مثل الإنتاجية، الإيديولوجيات العتيقة الواهنة من الماضي. وما يدعو إلى التفاؤل أن نماذج الحوكمة التي يحتاج إليها قائمة بالفعل وبوفرة.

* أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية جون ف. كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد، ويشغل منصب رئيس الرابطة الاقتصادية الدولية، وهو مؤلف كتاب «حديث صريح حول التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي مُـتـعافٍ»

Email