التقدم التكنولوجي يخفّض التضخم.. ولا يقهره!

نورييل روبيني

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتمثل الواقع الجديد الذي يتعين على العديد من الاقتصادات المتقدمة والأسواق أن تضعه في الحسبان في ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي. من الأسباب الرئيسية وراء النوبة الحالية من الركود التضخمي سلسلة من صدمات العرض الكلي السلبية التي عملت على تقليص الإنتاج وزيادة التكاليف. وقد يزعم المتفائلون أننا لا نزال قادرين على الاعتماد على الإبداع التكنولوجي لممارسة الضغوط الرامية إلى خفض التضخم بمرور الوقت. قد يكون هذا صحيحاً، لكن عامل التكنولوجيا يفوقه كثيراً عدد عوامل الركود التضخمي الأحد عشر المذكورة أعلاه. علاوة على ذلك، يظل تأثير التغير التكنولوجي على نمو الإنتاجية الإجمالية غير واضح في البيانات، وسوف يعمل الانفصال بين الصين والغرب على تقييد محاولات تبني تكنولوجيات أفضل أو أرخص على مستوى العالم، مما يزيد من التكاليف بالتالي.

في كل الأحوال، لا نستطيع أن نعتبر الذكاء الاصطناعي، والتشغيل الآلي (الأتمتة)، والروبوتات، من السلع الخالصة التي لا تشوبها شائبة، فإذا تحسنت إلى الدرجة التي يصبح معها من الممكن أن تخلق حالة ملموسة من خفض التضخم، فمن المحتمل أيضاً أن تتسبب في تعطيل مهن وصناعات بأكملها، وهذا من شأنه أن يزيد من اتساع فجوات التفاوت المتسعة بالفعل في الثروة والدخل، وقد يُـفـضـي هذا إلى ردود فعل سياسية سلبية أقوى من تلك التي شهدناها بالفعل ــ مع كل العواقب المترتبة على السياسة التضخمية التي من المرجح أن تحدث.

لا ينبغي لهذا أن يكون مفاجئاً، فقد أجبرت جائحة كورونا (كوفيد19) العديد من القطاعات على الإغلاق، وعطلت سلاسل التوريد العالمية، وأفضت إلى انخفاض مستمر ظاهرياً في المعروض من العمالة، وخصوصاً في الولايات المتحدة. ثم جاء غزو روسيا لأوكرانيا، والذي دفع أسعار الطاقة، والمعادن الصناعية، والمواد الغذائية، والأسمدة، إلى الارتفاع. والآن، أصدرت الصين أوامرها بفرض عمليات إغلاق صارمة في الاستجابة لجائحة (كوفيد19) في مراكز اقتصادية كبرى مثل شنغهاي، مما تسبب في إحداث ارتباكات إضافية أثرت على سلاسل التوريد وأدت إلى اختناقات في قطاع النقل.

ولكن حتى في غياب هذه العوامل المهمة في الأمد القريب، ستظل التوقعات للأمد المتوسط متزايدة القتامة. هناك العديد من الأسباب الداعية إلى القلق من أن تستمر ظروف الركود التضخمي اليوم في تمييز هيئة الاقتصاد العالمي، مما يؤدي إلى إنتاج تضخم أعلى، وانخفاض النمو، وربما الركود في العديد من الاقتصادات.

بادئ ذي بدء، منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية، كان هناك تراجع عن العولمة وعودة إلى أشكال متعددة من تدابير الحماية. وهذا يعكس عوامل جيوسياسية ودوافع سياسية محلية في البلدان، حيث تشعر مجموعات كبيرة من السكان بأنها «نبذت بالعراء». ومن المرجح أن تؤدي التوترات الجيوسياسية المتنامية وصدمة سلاسل التوريد التي خلفتها الجائحة إلى المزيد من إعادة التصنيع من الصين والأسواق الناشئة إلى الاقتصادات المتقدمة ــ أو على الأقل إعادة التصنيع إلى مناطق قريبة أو «مناطق صديقة) لمجموعات من البلدان المتحالفة سياسياً. في كلتا الحالتين، سيعاد تخصيص الإنتاج على نحو غير ملائم إلى مناطق وبلدان أعلى تكلفة.

علاوة على ذلك، ستستمر الشيخوخة السكانية في الاقتصادات المتقدمة وبعض الأسواق الناشئة الرئيسية في تقليص المعروض من العمالة، مما يتسبب في تضخم الأجور. ولأن كبار السن يميلون إلى إنفاق المدخرات دون عمل، فإن نمو هذه المجموعة من شأنه أن يزيد من الضغوط التضخمية في حين يعمل على تقليل إمكانات نمو الاقتصاد.

على نحو مماثل، ستعمل ردة الفعل السياسية والاقتصادية المستمرة ضد المهاجرين في الاقتصادات المتقدمة على تقليص المعروض من العمالة وفرض ضغوط تدفع الأجور إلى الارتفاع. لعقود من الزمن، عملت الهجرة الواسعة النطاق على كبح نمو الأجور في الاقتصادات المتقدمة، لكن يبدو أن تلك الأيام ولت.

على نحو مماثل، ستنتج الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين تأثيرات الركود التضخمي على نطاق واسع. ويعني الانفصال الصيني الأمريكي ضمناً تفتت الاقتصاد العالمي وانقسام سلاسل التوريد، واشتداد حدة القيود المفروضة على التجارة في التكنولوجيا، والبيانات، والمعلومات ــ وهي عناصر أساسية لأنماط التجارة في المستقبل. كما سيكون تغير المناخ مصحوباً بالركود التضخمي، ذلك أن الجفاف يتلف المحاصيل، ويخرب الحصاد، ويدفع أسعار الغذاء إلى الارتفاع، في حين تعمل الأعاصير والفيضانات ومستويات سطح البحر المتزايدة الارتفاع على تدمير المخزونات من رأس المال وتعطيل النشاط الاقتصادي. ما يزيد الطين بلة أن سياسات إلقاء اللوم على الوقود الأحفوري والمطالبة بإزالة الكربون بشكل صارم أفضت إلى تراجع الاستثمار في القدرات القائمة على الكربون قبل أن تصل مصادر الطاقة المتجددة إلى مستوى كاف للتعويض عن انخفاض المعروض من المواد الهيدروكربونية. في ظل هذه الظروف، لا مفر من حدوث ارتفاعات حادة في أسعار الطاقة. ومع ارتفاع أسعار الطاقة، سيضرب «التضخم الأخضر» أسعار المواد الخام المستخدمة في تصنيع الألواح الشمسية، والبطاريات، والمركبات الكهربائية، وغير ذلك من التكنولوجيات النظيفة.

من المرجح أن تكون الصحة العامة عاملاً آخر. لم يُـبذَل أي قدر يُـذكَـر من الجهد لمنع الفاشية المرضية المعدية التالية، ونحن نعلم بالفعل أن الجوائح تعطل سلاسل التوريد العالمية وتحض على ملاحقة سياسات الحماية مع اندفاع البلدان إلى تكديس الإمدادات الحيوية مثل المواد الغذائية، والمستحضرات الصيدلانية، ومعدات الحماية الشخصية.

ينبغي لنا أن نشعر بالقلق أيضاً بشأن الحرب السيبرانية (الإلكترونية)، التي قد تتسبب في إحداث ارتباكات شديدة في الإنتاج، كما أثبتت الهجمات الأخيرة على خطوط الأنابيب ومعالجات اللحوم. من المتوقع أن تصبح مثل هذه الحوادث أكثر تواتراً وشدة بمرور الوقت. وإذا كانت الشركات والحكومات راغبة في حماية أنفسها، فسوف تحتاج إلى إنفاق مئات المليارات من الدولارات على الأمن السيبراني، مما يضيف إلى التكاليف التي سيتحملها المستهلكون. هذه العوامل ستصب الزيت على وقود ردود الأفعال السياسية العنيفة ضد فجوات التفاوت في الثروة، وهذا يعني ضرورة زيادة الإنفاق المالي لدعم العمال، والعاطلين عن العمل، والأقليات المستضعفة، و«المنبوذين بالعراء». لكن الجهود الرامية إلى تعزيز حصة دخل العمالة نسبة إلى رأس المال، حتى وإن كانت تستند إلى نوايا حسنة، تعني ضمناً تفاقم كفاح العمال ودوامة من تضخم الأجور والأسعار. ثم هناك الحرب بين روسيا وأوكرانيا وما تفرزه من نتائج على الاقتصاد.

أخيراً، من المؤكد أن استخدام الدولار الأمريكي كسلاح ــ وهو أداة مركزية في إنفاذ العقوبات ــ من شأنه أيضاً أن يتسبب في إحداث الركود التضخمي. الواقع أن هذه الحال لا تخلق احتكاكات شديدة في التجارة الدولية في السلع والخدمات، والسلع الرأسمالية، ورأس المال فحسب، بل وتشجع منافسي الولايات المتحدة أيضاً على تنويع احتياطياتهم من النقد الأجنبي بعيداً عن الأصول المقومة بالدولار. بمرور الوقت، قد تُــفـضـي هذه العملية إلى إضعاف الدولار بشكل حاد (مما يجعل الواردات الأمريكية أكثر تكلفة ويغذي التضخم) وتؤدي إلى إنشاء أنظمة نقدية إقليمية، وهذا من شأنه أن يزيد من تفتت التجارة والتمويل العالميين.

 

* أستاذ الاقتصاد الفخري في كلية سترين لإدارة الأعمال

في جامعة نيويورك

Email