التصدي لأزمة «كورونا» والتعافي الاقتصادي في الصين

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

طيلة معظم العامين الماضيين، كان يُنظر إلى استراتيجية «صفر كورونا» في الصين على أنها طريقة جذرية لكن فعالة للإبقاء على معدلات الإصابة بفيروس كورونا المستجد في مستويات منخفضة انخفاضاً لافتاً. فقد فرضت الحكومة الصينية حجراً صحياً على ملايين الأشخاص في وقت واحد، وأمرتهم بأن يلازموا بيوتهم، بل حتى مدارسهم ومباني مكاتبهم. وفي شتاء العام الماضي، خضعت مدينة «سيان» لإجراءات الإغلاق لمدة شهر كامل، وكان جميع سكانها البالغ عددهم 13 مليوناً ملازمين لبيوتهم.

وعلى الرغم من أن هذه الاستراتيجية كان لها عواقب غير مقصودة، بما في ذلك تقييد الرعاية الطبية فيما يتعلق بأمراض أخرى وأدت، رغم أنها ضمنت السلامة والأمن في البلاد، إلى بعض المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، إلا أنها أبقت معدلات الإصابة بفيروس كورونا في مستويات منخفضة، وهذا فعلياً يسجل للصين كنجاح مهم. واعتبر معظم الناس في الصين، والعديد من المراقبين في أماكن أخرى، أن التكاليف هي الثمن الذي يجب دفعه مقابل تجنيب نسبة أكبر من السكان البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة الوفاة بمعدلات مرتفعة كما حدث في دول مثل الولايات المتحدة.

وكان النجاح الواضح لاستراتيجية «صفر كورونا» مصدر فخر للشعب الصيني، وقد وصفته قيادة البلاد بأنها علامة على تفوق الصين. إلا أن بعض تلك الاحتياطات والتي تعد أساسية ولا بد من وجودها والتقدي بها، رغم نتائجها، أصبحت تشكل سبباً مهماً يقيد تعافي الاقتصاد ويبدو أنه لا بد من إعادة النظر بها لتحصين اقتصاد البلاد التي تحقق معدلات نمو مضاعفة. إذ يمكن أن تكون العملية في هذا المجال بحالة موازنة ذكية بحيث تبقى الجذور الأساسية للتحصن من المرض، وبنفس الوقت تفسح آفاق التعافي النوعي لاقتصاد يصنف حالياً في مقدمة الاقتصادات الناجحة عالمياً.

وهو ما سيعزز مكانة الصين الاقتصادية وكذا بوصفها الدولة التي نجحت في تطويق احتمالات حدوث المزيد من الإصابات والوفيات بكورونا، فعلى الرغم من أن الأرقام الإجمالية قد لا ترتفع أبداً كما هي في الولايات المتحدة، إلا أنه سيصعب على الناس، الآن، قبول ارتفاع معدل الوفيات إلى الآلاف بعد أن اعتادوا على معدل صفر في حالات الإصابة.

لا خلاف في أن استراتيجية الصين في هذا المضمار باتت نموذجاً جديراً بالاحتذاء عالمياً، لكننا كما يبدو معنيون بالتركيز على البحث عن آفاق تعضيد تعافي الاقتصاد ومنع الاجراءات الخاصة بردع «كورونا» تحول دون الانطلاقة النوعية الجديدة للاقتصاد. وربما أن هذا ليس بصعب على الحكومة الصينية التي تتبع سياسات اقتصادية مرنة خلاقة. وبهذا الأساس ستسطيع الصين معالجة كل الآثار التي تركها الفيروس، من صحية واقتصادية واجتماعية، مع الإبقاء على الاحتياطات في أعلى المستويات، وأيضاً الحرص على تطويع وإزالة أية عقبات تظهر بفعل إفراز عكسي لهذه الأجراءات تؤدي إلى أضرار على الاقتصاد. إذ إن تكاليف عمليات الإغلاق على مستوى المدن كانت كبيرة حقاً، لا سيما في المراكز الاقتصادية الساحلية في الصين.

وتشير الأبحاث التي أجراها كبار خبراء الاقتصاد الكلي الصينيين إلى أن فرض إغلاق شامل في مدينة رئيسية مثل «شنغهاي» من شأنه أن يقلل من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الوطني (المعدل حسب التضخم) بنسبة 4٪. وستتحمل المدينة الخاضعة للإغلاق الجزء الأكبر من هذه الخسارة، ولكن العواقب السلبية ستشمل أيضاً مناطق أخرى تربطها علاقات تجارية مع المدينة المغلقة.

والأسوأ من ذلك، أن البلاد ستضطر في مقابل التصدي لهذا الوباء، لا تغلق مدينة واحدة فقط. ففي الفترة الأخيرة، أغلقت مدينة «شنتشن» التي يبلغ عدد سكانها 17.5 مليون نسمة، لمدة أسبوع. وخضعت نصف مدينة «شنغهاي» لإغلاق متكرر في وقت خضع جميع سكانها البالغ عددهم 26 مليوناً لاختبار (كوفيد 19) التشخيصي، قبل أن تغلق المدينة بأكملها فجأة إلى أجل غير مسمى. ولندرك حجم هذا الاضطراب، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن «شنغهاي» و«شينزن» هما، على التوالي، أكبر وثالث أكبر اقتصاد حضري في الصين، شأنهما في ذلك شأن المنطقتين الحضريتين في الولايات المتحدة، «نيويورك» و«شيكاغو».

ومن خلال الاعتماد المكثف على استراتيجية «صفر كورونا»، وضعت القيادة السياسية الصينية نفسها في مكانة كتقدمة عالمياً بحسن إدارة التعاطي مع الأزمة والقدرة على تطويقها، ولكن هذا يجب ان يترافق الآن مع استراتيجيات عمل ناجعة تعزز تعافي الاقتصاد وإزالة التحديات الخاصة بهذا الشأن.

وربما أن تحصين استراتجيات العمل الوطنية لتجاوز الوباء يجدر أن تكون مقرونة بجملة احتياطات مجتمعية ينهض بها الجميع وتدعم دور وأداء القيادة السياسية، بحيث يركز المعنيون على تحسين المناعة المزودة باللقاحات بالنسبة لكبار السن، ويجب أن تنشر جميع الموارد للزيادة من سرعة وعدد التطعيمات التي تقدَّم لكبار السن، كما يجب أن يجري الاعتماد على أكثر اللقاحات فعالية. وتعتبر الموافقة الأخيرة بشأن السماح لشركة صينية بأن تنتج أدوية جنيسة لعقار «فايزر» المضاد لفيروس كورونا خطوة في الاتجاه الصحيح، كما يجب أن يجري تشجيع المزيد من التقييمات المستقلة والشفافة فيما يتعلق بجميع اللقاحات المتاحة، حتى تتمكن من الزيادة من إمدادات اللقاحات الفعالة وتعزيز ثقة الناس فيها.

ثانياً، لا بد من أن يدرك أفراد الشعب الصيني أنهم في حاجة للتكيف نفسياً مع مقدمات وخطط مسقبلية جوهرها الاستعداد للتعايش مع (كوفيد 19)، مما يعني تقبلهم لحدوث حالات العدوى والوفيات، تماماً كما يحدث في حالة الإصابة بالإنفلونزا والأمراض المعدية الأخرى.

ينبغي أن يجري التحرك بهذا الصدد على وجه السرعة، فعلى الرغم من أنها لا تزال تعاني من الموجة الأولى لـ«أوميكرون»، فإن المتحور الفرعي (BA.2) يجتاح أوروبا بالفعل، ومن المرجح أن يشق طريقه إلى الصين في الأشهر المقبلة.

وخلُص الباحثون إلى أن المتغير الجديد مشابه للمتغير القديم، مما يهدد بصورة أساسية الأشخاص الذين لم يتلقوا التطعيم، أو الذين يعانون من نقص المناعة، أو الذين يفتقرون إلى الأجسام المضادة بسبب عدوى حديثة. إن الصين من الاقتصادات الرائدة في عالمنا والتي حققت نمواً نوعياً وأصبحت مثالاً مهماص في عالمنا، ولهذا لا بد من معالجة أية إفرازات عكسية لإجراءات التصدي لكورونا، مصيرها ان تمس حركة التعافي الاقتصادي، بجانب استراتيجية التصدي الدقيقة لهذا المرض، لا بد من حفظ ألق وجوهر التعافي الاقتصادي في البلاد.

* أستاذة الاقتصاد الإداري وعلوم القرار في كلية كيلوج للإدارة بجامعة نورث وسترن، والمديرة المؤسسة لمختبر الاقتصاد الصيني ومختبر «نورث وسترن» الصيني

Email