الصين.. مقومات نمو متماسكة وآفاق تطور مضاعف

تشانغ جون

ت + ت - الحجم الطبيعي

هناك جملة مقومات وركائز أساسية تعد قاعدة راسخة لنمو مضاعف للصين ولتطوير مستقبلي نوعي لا يتوقف، وعلى رأسها القوة الديموغرافية المؤهلة والسوق المحلية الضخمة، إلى جانب التقدم التكنولوجي والاقتصاد المتين وتنوع الاستثمارات والصناعات بجانب القدرة على الوصول إلى السوق العالمية. وعلى نحو مماثل، تعمل الروابط مع العالم الخارجي، بما في ذلك تبادل المعرفة والأفكار، على تسريع وتيرة التقدم التكنولوجي بشكل مُستمر. كما يُساعد النظام الاقتصادي المفتوح واللامركزي الذي يُشجع النشاط الذي يقوده السوق بقدر أكبر على إنجاح العملية التكرارية الحيوية لتسويق الابتكار.

في خضم التراجع عن العولمة، قد تتمتع الصين بميزة أكبر. وفي بحث أُجري في عام 2018، أظهر كلاوس ديسميت ودافيد كريستيان ناجي وإستيبان روسي-هانسبيرغ أنه في عالم يتسم بتقييد التجارة والهجرة عبر البلدان، يمكن للدول ذات الكثافة السكانية الكبيرة خلق المزيد من الفرص لزيادة الناتج الاقتصادي من خلال التجارة الداخلية والتخصص.

وأشار المؤلفون إلى أن أكثر الدول اكتظاظاً بالسكان ليست بالضرورة الأغنى في الوقت الراهن، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الهجرة. ولكن إذا ما زادت الحواجز أمام الهجرة بدرجة كبيرة، فسوف تتفوق البلدان المكتظة بالسكان على البلدان الأصغر حجماً في مجال الابتكار، حتى لو كانت هذه البلدان أكثر ثراءً. ونظراً إلى أن النمو الطويل الأجل مدفوع بالنجاحات التي تم تحقيقها في مجال التكنولوجيا، فإن هذا يُترجَم إلى ميزة اقتصادية كبيرة للبلدان ذات الكثافة السكانية العالية. تُسلط هذه النتيجة الضوء على فشل محاولة تركيز أمريكا على الداخل، فمن الواضح أن نجاح أمريكا يعود إلى الهجرة والعولمة.

في غضون أربعة عقود فقط، حقق الاقتصاد الصيني مستوى غير مسبوق من الثروة والتنمية، وحتى وقت قريب، كان من المُقرر أن يستمر مسارها التصاعدي للنمو الاقتصادي والازدهار. ولكن في الوقت الذي تدفع فيه الضغوط السياسية وأزمة فيروس كورونا العديد من البلدان، وخاصة الولايات المتحدة، إلى تبني المزيد من السياسات القومية، قد يتم قريباً استبدال ذروة العولمة بحقبة ما بعد الجائحة التي شكلتها المخاوف المُتعلقة بالأمن القومي والضوابط الحدودية.

هذه ليست بالأنباء الجيدة بالنسبة للصين، التي تُفضل أن يحافظ العالم على الانفتاح الاقتصادي الذي حققته في العقود الأخيرة. ولهذا السبب، تعمل الصين جاهدة للتوفيق بين أنشطتها الاقتصادية والتجارية وبين القواعد والمعايير الدولية. ومع ذلك، يبدو أن الصين اليوم لا تملك خياراً سوى الاستعداد لمستقبل يتسم بارتفاع الحواجز والقيود التجارية على نحو متزايد.

وتحقيقاً لهذه الغاية، تُوضح الخطة الخماسية الرابعة عشرة للصين أن البلاد ستسعى إلى الحد من اعتمادها على الطلب الخارجي. وبدلاً من ذلك، تُركز «استراتيجية التداول المزدوج» المُعلنة في الخطة على الاعتماد على عدد السكان الضخم في البلاد. كما تُخطط الصين للاستثمار بكثافة في القطاعات المُتطورة، مثل الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيات الأساسية.

في الواقع، تشك بعض الجهات الخارجية بشدة في تحركات الصين الرامية إلى زيادة سيطرة الدولة على تنميتها الاقتصادية، مثل فرض لوائح وأنظمة جديدة على شركات التكنولوجيا وأسواق رأس المال. إنها تخشى قيام الدولة بمنح الأولوية لأهدافها الجيوسياسية والتراجع عن السعي لبناء اقتصاد السوق. كما يشعر البعض بالقلق إزاء عودة الصين إلى نموذج التنمية الذي كان سائداً قبل أن يطلق دنغ شياو بينغ سياسة «الإصلاح والانفتاح» في البلاد. تُعد هذه المخاوف مبالغاً فيها إلى حد كبير. إن عودة الصين إلى اقتصاد خاضع لسيطرة الدولة أو تبنيها سياسات انعزالية يكاد يكون أمراً مُستبعداً. وبدلاً من ذلك، يجب تفسير الدور المُتزايد الذي تلعبه الدولة في الاقتصاد والتحول نحو الاعتماد على الذات باعتباره استجابة لبيئة خارجية مُتغيرة، ومُعادية في بعض الأحيان.

كان من المحتمل تحقيق هذا التحول حتى لو لم تتدهور العلاقات الصينية الأمريكية كما حدث بالفعل، وذلك بسبب عدد سكان الصين الهائل. وإدراكاً لإمكانات سوقها الداخلية الضخمة، فقد سعى قادة الصين منذ فترة طويلة إلى زيادة الطلب المحلي كوسيلة للوقاية من التغيرات الخارجية. وفيما يتعلق بالتقدم التكنولوجي، فإن وجود عدد أكبر من السكان يعني ضمناً المزيد من المواهب وعائدات أكبر للابتكار.

لا شك أن الصين تُواجه تحديات ديموغرافية هائلة، فقد عرف معدل المواليد في البلاد انخفاضاً ملحوظاً، حيث بلغ مستويات قياسية مُتدنية في عام 2020، لكن الآثار المُترتبة على هذا الانخفاض سوف تستغرق بضعة عقود قبل أن تُخلف تأثيراً فعلياً. كما تمنح الخصائص الديموغرافية للصين اليوم ميزة كبيرة للبلاد مقارنة بالولايات المتحدة من حيث رأس المال البشري على مدار العشرين عاماً المُقبلة على الأقل. وتُشير توقعات النمو المستقبلي للصين إلى أنه إذا استفادت الصين إلى أقصى حد من هذه الميزة، كما تبدو مُستعدة للقيام بذلك، ستُدرك الولايات المتحدة أن عرقلة التقدم الاقتصادي للصين أمر مُستحيل. وبدلاً من إحباط طموحات الصين، ستشجع السياسات الأمريكية الصين على مواصلة تحصين نفسها والتركيز على رهاناتها.

وفي أسوأ السيناريوهات، سينتهي الأمر بأكبر اقتصادين في العالم إلى الهيمنة على أنظمة إمدادات التكنولوجيا الخاصة بهما، ولكل منهما قواعد ومعايير خاصة، وهذا احتمال واضح. ومع ذلك، يتعين على السياسيين ذوي الرؤى المستقبلية إدراك مدى النجاحات التي يمكن تحقيقها على كلا الجانبين إذا عمل البلدان معاً بدلاً من ذلك.

 

*عميد كلية الاقتصاد في جامعة فودان ومدير المركز الصيني للدراسات الاقتصادية، وهو مركز أبحاث في شنغهاي

opinion@albayan.ae

Email