جدوى منهج صنع السياسات القائم على الأدلة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الإنجازات المهمة التي تتميز بها الحقبة الحديثة، والتي أنقذت أعداداً لا حصر لها من الأرواح، وحققت نمواً اقتصادياً كبيراً، لم تكن لتحدث لولا الأبحاث الدقيقة، والأسئلة المفتوحة، فمن اكتشاف قوانين الفيزياء ونظرية جرثومة المرض، إلى تطوير السياسات العامة، استخدم الباحثون التجريب من أجل تطوير المجتمع.

واليوم، وبينما تصارع المجتمعات من أجل إعادة إحياء السفر، وإعادة فتح المدارس، وسلامة أماكن العمل، في ظل متحورات كوفيد 19 الجديدة، فإن هناك حاجة عاجلة للتجارب الاجتماعية، للتحقق من أننا نطبق السياسات التي لديها سجل مثبت من النجاح.

لو عملنا ذلك، فإن هذا يعني أننا نبني على تقاليد عريقة، ففي سنة 1881، قام هيبوليت روزيجنول، وهو طبيب بيطري فرنسي شهير، والذي كان متشككاً بنظرية جرثومة المرض، بتحدي لويس باستور، لاختبار فرضيته، وذلك من خلال تطعيم الحيوانات في مزرعته خارج باريس، ولم يكن لباستور أي خيار سوى قبول هذا التحدي العلني، وعلى الرغم من أنه لم يتم اختبار أي لقاح على الإطلاق خارج المختبر.

وفي الخامس من مايو 1881، تم تطعيم بضع عشرات من الحيوانات في مزرعة روزيجنول، ضد الجمرة الخبيثة (وتلقت تلك الحيوانات «حقنة وقائية أخرى» بعد ذلك بأسبوعين)، كما أن مجموعة مشابهة من الحيوانات، لم تتلقَ أي تطعيم، وفي 31 مايو، تم حقن المجموعتين بسلالة خطيرة من الجمرة الخبيثة، وبعد يومين، تجمع عدد من المزارعين والأطباء البيطريين والصيادلة والمسؤولين الزراعيين في مزرعة روزيغنول، لمراقبة النتائج، وكانت النتيجة، التأكيد على نظرية باستور، فجميع الحيوانات التي تلقت اللقاح كانت حية وسليمة، بينما كانت الحيوانات التي لم تتلقَ اللقاح، إما ميتة أو تحتضر، أو في حالة سيئة.

نحن مدينون كثيراً لمثل هذه التجارب المبكرة، والتي أصبحت تُعرف رسمياً باسم التجارب العشوائية المنضبطة، حيث تلعب تلك التجارب دورين مهمين: فهي تساعد العلماء على تحقيق تقدم في مجال العلم، بالإضافة إلى المساعدة في إقناع بقية المجتمع بالثقة في هذا العلم.

فقط بعد أكثر من 140 سنة من تجربة باستور، حبس العالم أنفاسه، وهو ينتظر نتائج التجارب السريرية للقاحات كوفيد 19، التي تم تطويرها حديثاً، وبعد انتهاء تلك التجارب العشوائية المنضبطة – مع نتائج ناجحة بشكل لافت للنظر- سارعت الحكومات إلى اعتماد اللقاحات الجديدة، كما تسابقت الدول على الحصول على تلك اللقاحات.

منذ أن وضع باستور أسس التجارب الطبية المنضبطة، أصبحت تلك الأسس مثالاً يحتذى به من الناحية العلمية، ومنذ سنة 1963، أصبحت إدارة الغذاء والدواء في الولايات المتحدة الأمريكية، تطلب أدلة قائمة على أساس التجارب العشوائية المنضبطة، قبل السماح بالاستخدام التجاري للأدوية الجديدة، والكثير من سكان العالم الآن، إما قد تم تطعيمهم أو ينتظرون بلهفة الجرعات، وذلك نظراً لأن الناس يثقون ضمنياً بالعلم والتجارب الشفافة والمعلنة، التي يمكن التعويل عليها، والتي يقوم على أساسها ذلك العلم.

لكن التجارب العشوائية المنضبطة، لا تقتصر على العلوم الطبية، فمنذ منتصف القرن العشرين، اتبعت العديد من التجارب الاجتماعية العملية نفسها، وإحدى تلك التجارب، انبثقت عن الجدل السياسي القائم حول برامج الرعاية الحالية والبديلة. لقد استكشفت تجربة «المحافظة على الدخل في نيوجيرسي»، برعاية مكتب الفرص الاقتصادية، الآثار السلوكية لبرامج زيادة الدخل، ما أسفر عن رؤى لا تزال تؤثر في تصميم السياسة العامة اليوم.

لكن على عكس التجارب الطبية، فإن التجارب الاجتماعية- التجارب العشوائية المنضبطة على نطاق واسع، والمتعلقة بالسياسة العامة، وتحظى بتمويل حكومي- لم تصبح مثالاً يحتذى به، وفي العديد من الحالات، كانت تلك التجارب غير عادلة بطبيعتها، فعلى سبيل المثال، لماذا يجب على بعض الناس أو النشاطات، الاستفادة من معدل منخفض لضريبة الدخل، مقارنة بالآخرين؟.

لكن مثل تلك المخاوف، عادة ما تكون في غير محلها، فنحن بحاجة للمزيد من التجارب الاجتماعية، حيث يجب على الحكومات عمل تلك التجارب بشكل روتيني، وذلك كجزء أساسي من عملية صنع السياسات. إن تبني الاقتصاديين للنهج التجريبي في السنوات الأخيرة – في المختبر والإنترنت والشركات والأماكن النائية- قد أدى إلى العديد من الاختراقات العالمية، والتي تم الإقرار بها حسب الأصول، وذلك من خلال العديد من جوائز نوبل.

إن المشكلة هي أن الحكومات بطيئة جداً في أن تحذو حذو الاقتصاديين.

بدون أدلة عن الذي سوف يحقق النجاح من عدمه، سينتهي المطاف بالحكومات فعلياً، أن تعمل تجربة ضخمة، علينا جميعاً، وبدون الضوابط المناسبة. إن السياسات المبنية على أساس الأدلة الضعيفة، قد تم تطبيقها على المستوى الوطني، وحتى على المستوى العالمي، وأتت بنتائج عكسية، وبالفعل، بعد سنتين تقريباً منذ بدء جائحة كوفيد 19، وعلى الرغم من التدفق غير المسبوق للبيانات اليومية من العالم بكامله، فإن من المفاجئ أنه لا يزال لدينا فهم محدود للتأثيرات الصحية والاقتصادية، وغيرها من التأثيرات للسياسات المتشددة، مثل الإغلاق وإغلاق المدارس، والقيود على التنقل، حيث كان صانعو السياسات إلى حد كبير، يعملون بشكل يشبه الأعمى الذي يحلق في الجو.

إن الأدلة التي يتم الحصول عليها من خلال التجريب الرسمي، يمكن أن تنقذ الأرواح، وخاصة عندما تسترشد بالنظرية، ويرافقها أنواع أخرى من الأدلة. يُتوقع من الباحثين المحترفين، تصميم التجارب بعناية، والالتزام بأعلى المعايير الأخلاقية، في ما يتعلق بالموافقة والضرر المحتمل، ووضع جميع الضمانات المناسبة لتقليل المخاطر على المشاركين، مع إتاحة الفرصة لمجالس المراجعة المؤسسية، لتقييم عملهم.

يحتاج العلماء والباحثون لفهم الأبعاد السياسية لتجاربهم، من منظور صناع السياسات، وبناء الثقة والشراكات القوية طيلة العملية، ولكن لكي تنتصر السياسات القائمة على الأدلة، يجب على الحكومات في نهاية المطاف، أن تدرك أنها لا تستطيع استبعاد الأدلة الحاسمة التي توفرها التجارب الاجتماعية.

* أستاذ الاقتصاد في جامعة شيكاغو

** أستاذ الاقتصاد في جامعة كورنيل والجامعة العبرية في القدس

Email