استثمار أخضر يواجه «وحـش» أمريكا اللاتينية

أندريس فيلاسكو

ت + ت - الحجم الطبيعي

يتمتع أهل أمريكا اللاتينية بمواهب عدة. إحدى هذه المواهب قدرتنا غير العادية على تضليل أنفسنا، كما أوضحت الجائحة. الواقع أن ست دول من عشرين سجلت أعلى معدل وفيات بمرض فيروس كورونا (كوفيد 19)، قياساً على نصيب الفرد في العالم تقع في أمريكا اللاتينية. تتصدر بيرو القائمة وتحتل البرازيل المرتبة الثامنة.

أجل، ساعد الفقر، ونقص الأسِـرة في المستشفيات، والمساكن المكتظة، على انتشار الفيروس، لكن هذه العوامل وحدها من غير الممكن أن تفسر لماذا كان أداء المنطقة سيئاً إلى هذا الحد. تعاني بلدان عدة في آسيا وأفريقيا من المشكلات ذاتها لكن معدل الوفيات لديها قياساً على نصيب الفرد أقل. وحتى البلدان التي حصنت الناس في وقت مبكر، مثل تشيلي ــ أو التي اعـتُـبِـرَت قصة نجاح عندما ضربها الفيروس في البداية، مثل أوروجواي ــ انتهت بها الحال إلى أداء متواضع.

مرة أخرى، تستعد أمريكا اللاتينية لقيادة العالم ــ هذه المرة، في الفشل الاقتصادي بعد الجائحة. نعمت المنطقة ببضعة أرباع من التعافي القوي، بدعم من ارتفاع أسعار السلع الأساسية، لكن محرك النمو بدأ يتعثر بالفعل في العديد من البلدان. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن تكون أمريكا اللاتينية أبطأ مناطق العالم نمواً في عام 2022. ما يزيد الطين بلة أن الخسائر تبدو دائمة، حيث خلص تقرير صادر للتو عن صندوق النقد الدولي عن المنطقة إلى أنها في الأرجح لن تعود أبداً إلى مسار نصيب الفرد في الدخل الذي كان متصوراً قبل الجائحة. على النقيض من هذا، يتوقع الصندوق أن تقترب الاقتصادات المتقدمة سريعاً من العودة إلى مسارات ما قبل فيروس كورونا.

تؤكد نظرية النمو الاقتصادي النمطية أن الدول الفقيرة ينبغي لها أن تلحق بالدول الثرية تدريجياً. الواقع أن أمريكا اللاتينية تُـعَـد استثناءً في هذه القاعدة.

في الماضي، كان اقتصاد المنطقة يعاني كلما انخفضت أسعار السلع الأساسية. هذه المرة، سيعاني خلال ما يبدو أنه طفرة صغيرة في السلع الأساسية. يرجع جزء من السبب إلى أن تباطؤ نمو الإنتاجية والدخل من المشكلات القديمة التي طال أمدها. فمنذ السبعينيات إلى التسعينيات من القرن العشرين، فوتت أمريكا اللاتينية سفينة التصنيع الموجه للتصدير الذي جعل بلدان منطقة شرق آسيا غنية. وفي القرن الحادي والعشرين، أهدرت أمريكا اللاتينية فرصة طفرة الازدهار في سلاسل الإمداد التي استفادت منها بلدان من بلغاريا إلى فيتنام. ترتبط المكسيك بشدة بسلاسل التوريد في أمريكا الشمالية، لكن هذا لا ينطبق على اقتصادات أمريكا الجنوبية الكبرى مثل الأرجنتين والبرازيل وكولومبيا.

تهدد الندوب الاقتصادية التي أحدثتها الجائحة بإضعاف النمو الاقتصادي الطويل الأجل بدرجة أكبر. بفضل السلوك الأناني إلى حد مذهل من جانب نقابات المعلمين، التي رفضت إعادة فتح المدارس بعد فترة طويلة من عودة العمال في قطاعات أخرى إلى وظائفهم، أُبـعِـد تلاميذ أمريكا اللاتينية عن الفصول الدراسية لمدة 48 أسبوعاً في المتوسط أثناء الجائحة. في اقتصادات ناشئة ونامية أخرى، كان الرقم 30 أسبوعاً فقط. استمر الأطفال المنتمون إلى أسر موسرة والقادرون على الوصول إلى التعلم عن طريق اتصالات النطاق العريض في التعلم من منازلهم؛ أما أطفال الأسر الفقيرة فلم يتمكنوا من الاستمرار. وسوف يدوم التأثير المتخلف عن ذلك على الإنتاجية في أمريكا اللاتينية لعقود من الزمن ــ ويجعل فجوة التفاوت في الدخل أشد سوءاً.

يتسبب انهيار الاستثمار أيضاً في دفع النمو إلى الانخفاض. كشفت دراسة اقتصادية حديثة في تشيلي أن %70 من الشركات علّقت خططها للتوسع. ليس من الصعب فهم الأسباب. ففي الأسبوع ذاته الذي أجريت فيه الدراسة، جرى تخريب وسط مدينة سانتياجو، بينما عـلـم أهل تشيلي أن مرشحاً من اليمين المتطرف انضم إلى أحد اليساريين المتطرفين على رأس استطلاعات الرأي قبيل الانتخابات الرئاسية في الحادي والعشرين من نوفمبر.

عانت أمريكا اللاتينية لفترة طويلة من الشعبوية اليسارية. فقد بَـرَعَ هؤلاء في تصوير أنفسهم على أنهم الممثل الحقيقي الوحيد للشعب ــ ثم شرعوا في إضعاف المؤسسات الديمقراطية التي قد تحاسبهم على سياساتهم الكارثية. الآن، ابتليت المنطقة أيضاً بالشعبوية اليمينية. الواقع أن هؤلاء اليمينيون يتلون السيناريو ذاته الذي كتبه دونالد ترامب: القانون والنظام، والقومية المعادية للمهاجرين، والحرب الثقافية المضادة لليقظة. قريباً، ستعقد تشيلي والبرازيل وكولومبيا انتخابات رئاسية من المتوقع أن تدور جولاتها الثانية بين كونج كونج يميني وجودزيلا يساري. في الفيلم، لم يخلف الـصِـدام بين الوحشين سوى الدمار. وقد يحدث الشيء ذاته في أمريكا اللاتينية.

علاوة على ذلك، في حين أن الجائحة ربما تكون في طريقها إلى الزوال، فإن شبح أزمة الديون يلوح في الأفق. النبأ السار هنا هو أن أغلب البلدان لم تفقد القدرة على الوصول إلى الأسواق. لذا، تستطيع الحكومات والشركات أن تستمر في الاقتراض للتغلب على عقبة الجائحة. أما النبأ السيئ فهو أنها مضطرة الآن إلى التعايش مع العواقب. تشكل الديون العامة والخاصة التي أصبحت أعلى كثيراً، وآجال الاستحقاق المتزايدة الـقِـصَر، وارتفاع أسعار الفائدة العالمية، مزيجاً ساماً. في العديد من البلدان ارتفعت نِـسَـب الدين الحكومي بالفعل إلى مستويات مثيرة للقلق.

لكن على الرغم من كل الـمِـحَـن التي تعيشها، تستطيع أمريكا اللاتينية أن تعاود النمو مرة أخرى إذا اغتنمت فرصتين. تتمثل إحداهما في إعادة الإنتاج إلى البلدان الأصلية للشركات وتصاعد التوترات بين الصين والغرب. فقد تكون خسارة قوانجدونج مكسباً لجوادلاخارا. وإذا عملت اقتصادات أمريكا الجنوبية الأكثر تقدماً على تحسين موانئها وطرقها، وتمكنت من الإبقاء على مواردها المالية مستقرة بدرجة معقولة، فقد تستفيد هي أيضاً. هذه هي فرصة هذه الاقتصادات الثانية للحاق بسفينة سلاسل التوريد التي فاتتهم أولاً قبل جيل كامل.من الممكن أن تساعد أيضاً زيادة الاستثمار في البنية الأساسية الخضراء. سوف تتطلع الجهات المقرضة المتعددة الأطراف إلى تمويل المشاريع في أي من المجالات الخضراء، وينبغي للمنطقة أن تستفيد من هذا بشكل كامل.

وفقاً لبنك التنمية للبلدان الأمريكية، تستطيع حكومات أمريكا اللاتينية أن تفسح المجال للاستثمار الأخضر إذا خفضت النفقات التراجعية. هذا صحيح، لكن القول أسهل من الفعل غالباً. يرغب اللاعبون الأقوياء بشدة غالباً في أشكال غير مرغوبة من الإنفاق. من الأمثلة على ذلك إعانات دعم الطاقة التراجعية وغير الرحيمة بالبيئة. وما عليك إلا أن تسأل الساسة في الأرجنتين والإكوادور الذين كافحوا لإزالتها.

ينبئنا أحد الأقوال المأثورة بأن «البرازيل هي بلد المستقبل وستظل كذلك دوماً». وفي أيامنا هذه، تسعى العديد من بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى التي تفتقر إلى الحكم الرشيد، إلى اكتساب المصير ذاته.

 

* مرشح رئاسي ووزير مالية سابق في تشيلي، ويشغل حالياً منصب عميد كلية السياسة العامة في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية

Email