الإنفاق المدروس يضمن مستقبلاً مستداماً

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

إن صنع السياسات الاقتصادية والمالية عادة ما يتحرك مثل بندول الساعة، فمشاعر النشوة المتعلقة بإمكانات العمل الحكومي عادة ما يتبعها ردة فعل سلبية وخيبة الأمل وانخفاض سقف التوقعات. إن الطرح المتعلق «بقدرتنا على الإنجاز» عادة ما يتم استبداله بطرح «يجب ألا نعمل ذلك» والقيود والأحكام المرتبطة بذلك الطرح، علماً أن العديد من الاقتصادات المتقدمة قد وصلت لتلك النقطة، فبعد فترة من الإنفاق الذي يثير مشاعر السعادة، أصبحت هناك مقاومة متزايدة ضد التوسع الحكومي.

إن الانتكاسات السابقة في بندول السياسة يتم تذكرها كنقاط تحول تاريخية، فلو نظرنا إلى سبعينات القرن الماضي لوجدنا أنها بدأت بثقة كبيرة بأن الحكومات قادرة على حل كل مشكلة من خلال إدارة الطلب الكينزية، ولقد جاء التحول سنة 1976 عندما اعترف رئيس الوزراء البريطاني جيمس كالاهان في خطابه خلال مؤتمر حزب العمال قائلاً: «كنا نعتقد أن بإمكاننا الخروج من الركود من خلال الإنفاق، ولكن دعوني أخبركم وبكل صراحة أن هذا الخيار لم يعد موجوداً». لقد شهدت العقود التالية ظهور معتقد جديد كان يركّز على تخفيض العجز وقيود الدين والقواعد المالية، وكما أكدت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في ثمانينات القرن الماضي «لا يوجد بديل»- وهو شعار تردد صداه من خلال المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إبان أزمة الديون في منطقة اليورو.

بحلول تلك النقطة كانت دورة السياسات قد تحولت مرة أخرى، فبعد الأزمة المالية العالمية سنة 2008، ركّزت الحكومات في البداية على تنسيق التحفيز المالي، ولكن بعد 2010 تجددت المخاوف المتعلقة بمستويات الدين، وتم سحب إجراءات التحفيز، ولقد تسبب ذلك التقشف اللاحق بتكلفة اقتصادية كبيرة، مما أدى إلى توافق جديد آخر ضد القواعد المتعلقة بطرح «يجب ألا نعمل ذلك» ولصالح الإنفاق من أجل تحفيز الاقتصاد.

لقد أدت الاستجابة لجائحة «كوفيد 19» إلى حصول تحول جديد، ففي البداية أي مبلغ من الإنفاق الحكومي كان يبدو مناسباً -وحتى ضرورياً- من أجل التخفيف من الآثار المدمرة جداً للإغلاق ولم يختلف أي أحد مع هذا التشخيص الاقتصادي العام، وثبت أن الإنفاق الحكومي على تطوير اللقاح كان فعالاً بشكل فريد، مما أدى إلى عوائد اقتصادية ضخمة ومنع أعداد لا حصر لها من الوفيات ودخول المستشفيات بما يحمله ذلك من تكلفة باهظة.

لقد نتج عن أول وصول للقاحات شعور عام بالنشوة فيما يتعلق بقدرة الإنفاق العام على تحويل مسار الأمور، وبدأ المزيد من الناس يتطلعون للسياسة العامة من أجل إصلاح النسيج الاجتماعي المتآكل، حيث وصلوا إلى قناعة مفادها أن الوضع لا يزال يتطلب المزيد من الإنفاق، كما تم تجاهل المخاوف المتعلقة بالأطر التقليدية للاقتصاد الكلي والدورات الاقتصادية وفجوات الإنتاج.

وحتى في ظل الظروف القاتمة لسنة 2020، تمكّن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الاحتفاظ بمستوى كبير من الشعبية، وذلك من خلال استخدام قوة إنفاق الدولة، حيث حصلت ملايين الأسر الأمريكية على شيكات التحفيز وعليها بشكل غير معتاد توقيع الرئيس، وبالمثل تمكّن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون وزملاؤه في حزب المحافظين من تحقيق نصر انتخابي مذهل في ديسمبر 2019، وذلك بعد أن كان أساس حملتهم الانتخابية الوعد بإعادة تنشيط المناطق الصناعية الشمالية المتدهورة في إنجلترا، حيث وعدوا «انتخبوا المحافظين لتحصلوا على المصانع».

يمثل نموذج «القدرة على الإنجاز» هذا استجابة متأخرة لمنطق أسعار الفائدة والديون خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين - عندما جعلت معدلات الفائدة المنخفضة الاقتراض الحكومي فعلياً بالمجان - ويمكن تكراره على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. كانت الاستجابة الاقتصادية لجائحة «كوفيد 19» مثل الحشد للحرب، مما خلق انطباعاً بأن دفعة واحدة منسقة للأمام مهما كانت التكلفة هي كل ما كان مطلوباً من أجل الفوز.

لكن الحروب لا يمكن التنبؤ بها ومدتها غير معروفة، ومن المعروف أن الحرب العالمية الأولى لم تنتهِ بحلول عيد الميلاد سنة 2014. إن الحروب مثل الفيروسات، حيث يمكن أن تستمر لفترة طويلة جداً، مما يثير تساؤلات عن كل تلك الديون التي تم تكبدها وهل يمكن سدادها؟

إن الحرب والجائحة عادة ما تنطويان على أمثلة مدهشة تتعلق بسوء الصرف. إن النشاط المسرف في مواجهة الغموض هو شيء حتمي، ولكن هذا ينطبق أيضاً على الإدراك في نهاية المطاف أنه لا يوجد غداء مجاني، وأن الإنفاق على الجهد الحربي سوف يؤدي إلى استبعاد استثمارات مفيدة أخرى.

إن التركيز على الشخصيات والفضائح ربما يعتبر جزءاً لا يتجزأ من المسرح السياسي، ولكنه في غير محله، فالحكومات تواجه قضايا جوهرية ومهمات عاجلة، وذلك من احتواء الفيروس إلى منع التغير المناخي الكارثي.

لا يمكن وبكل بساطة، تحقيق أي من تلك الأهداف من خلال الإنفاق غير المحدود. تتطلب الحلول تدابير مستهدفة ومحددة التكلفة بدقة، وفي مواجهة تحدٍ كبير، لا يوجد ما هو أسوأ من إهدار الموارد الشحيحة أو الإنفاق لمجرد الإنفاق.

إذاً السؤال المطروح هنا لا يتعلق بكمية الأموال المتوفرة للإنفاق، بل ما أفضل طريقة لإنفاق الأموال لضمان مستقبل صالح للعيش ومستدام، فنحن بحاجة إلى تركيز أكبر وتبذير أقل.

* أستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون وهو مؤلف كتاب حرب الكلمات: قائمة مصطلحات العولمة

Email