سلاسل القيمة العالمية والتحديات البيئية

إريك بيرجلوف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الموانئ المغلقة، وتأخيرات الشحن الطويلة الأمد، وارتفاع تكاليف النقل إلى عنان السماء، كل هذه أدلة على استمرار الدمار الذي تلحقه جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد19) بسلاسل القيمة العالمية. الآن، تعيد الشركات النظر في الأماكن التي ستتخذها موقعاً لإنتاجها (أو تنقل إنتاجها إليها)، وما إذا كانت عملياتها تحتاج إلى الزيادة وبأي قدر، وأي المخزونات يجب عليها أن تحتفظ بها كمانع للصدمات في المستقبل. تنتشر التأثيرات كالأمواج عبر الاقتصاد العالمي، فتخلق أسبابا إضافية لعدم اليقين وتعمل على إبطاء التعافي. علاوة على ذلك، وبعد حضور صناع السياسات مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP26) في غلاسكو، تتزايد الضغوط في المطالبة بإزالة الكربون من الإنتاج والنقل على طول سلاسل القيمة العالمية.

يشكل مدى سرعة تحقق هذه الغاية أهمية كبرى. إذ تمثل سلاسل القيمة العالمية نصف الصادرات العالمية، وقد سجلت حصة الاقتصادات الناشئة والنامية في شبكات الإنتاج زيادة كبيرة منذ الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008. على سبيل المثال، لم يعد الاقتصاد المنخفض أو المتوسط الدخل في احتياج إلى إنتاج سيارة كاملة لدخول سلسلة توريد السيارات العالمية؛ بل يكفي أن يتخصص في مكون واحد صغير.

على هذه الخلفية يفحص تقرير حديث صادر عن البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية تأثير الجائحة على سلاسل القيمة العالمية، ويوضح كيف يمكن أن تصبح الآن أدوات لتحقيق هدف اتفاق باريس للمناخ الذي أبرم عام 2015، والذي يتمثل في الحد من تأثير الانحباس الحراري الكوكبي بحيث لا يتجاوز الارتفاع في درجات الحرارة 1.5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة.

تشير الأدلة من الأزمات السابقة التي عطلت بشكل كبير سلاسل توريد رئيسية (مثل زلزال جيجي عام 1999، وكارثة فوكوشيما النووية عام 2011) إلى أن ضغوط الكفاءة القوية والاعتماد الشديد عل الثقة الشخصية في علاقات الموردين من الأسباب التي ترجح العودة إلى الوضع السابق. وإذا استمر هذا النمط، فسوف تثبت الارتباكات والاضطرابات الحالية التي أحدثتها الجائحة كونها مؤقتة وسوف تُـحَـل من تلقاء ذاتها مع عودة العالم إلى طبيعته.

لكن هذه المرة قد تكون مختلفة، لأن جائحة (كوفيد19) تضرب النظام الاقتصادي العالمي على نطاق أوسع كثيراً ولفترة أطول كثيرا من معظم الصدمات السابقة. لا ينبع تأثير الجائحة الحالي من الإغلاق الأولي في الصين في أوائل عام 2020 ــ الذي تعافى منه الاقتصاد الصيني وسلاسل القيمة العالمية بسرعة ملحوظة ــ بقدر ما يرجع إلى الزيادة السريعة في الطلب الناجمة عن التحفيز الحكومي الضخم وإطلاق العنان للمدخرات المتراكمة. كما أدى فتح الاقتصادات على نحو غير متزامن إلى تضخيم ارتباكات العرض.

قد يستغرق الأمر سنوات لتحديد تأثير أزمة (كوفيد19) على سلاسل القيمة العالمية. وقد تتسبب الجائحة في تحفيز إعادة النظر بشكل جوهري في كيفية تنظيم هذه السلاسل وأين يمكن إعادة توطين الإنتاج. أصبح مصطلح «الصمود»، أو القدرة على التعافي من الصدمات بسرعة، لفظة جديدة شائعة في هذه المناقشة. في الوقت ذاته، تعمل المخاوف الجيوسياسية على خلق الضغوط التي تحمل الاقتصادات على تقليل اعتمادها في العرض على البلدان فرادى بينما يجري الفصل بالفعل في صناعات التكنولوجيا الفائقة المهمة.

تُـعَـد الزيادات الأخيرة في أسعار الطاقة تَـذكِـرة لنا بأن سلاسل القيمة العالمية تواجه تحدياً أعظم مع سعي العالم إلى التعجيل بالوصول بصافي الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون إلى الصفر. مع توزع الإنتاج جغرافيا وشحن المنتجات الوسيطة ذهاباً وإياباً عبر الحدود ولمسافات طويلة، تتصاعد الضغوط لإزالة الكربون من سلاسل القيمة العالمية. في الوقت ذاته، يتعين على الاقتصادات الناشئة والنامية أن تفي بمساهماتها المحددة على المستوى الوطني بموجب اتفاقية باريس. لكن الاندفاع في اتجاه إزالة الكربون من سلاسل القيمة العالمية يمثل أيضاً فرصة عظيمة للتعجيل بالانتقال إلى صافي الصِـفر. ولأن شبكات الإنتاج هذه تعتمد على قدرة شركاتها الرائدة على زيادة الكفاءة عبر سلسلة التوريد، فمن الممكن أن تضطلع هذه الشركات بدور مهم في دفع أجندة صافي الصِـفر عبر الحدود والقطاعات. وقد تعهدت العديد من هذه الشركات بالفعل بتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2050، كما تفرض البنوك المركزية الضغوط على دائني هذه الشركات لحملهم على تقليل مخاطر المناخ في محافظ قروضهم.

على نحو مماثل، سينشأ حافز إضافي لدى البلدان الراغبة في اجتذاب الاستثمارات في سلاسل القيمة العالمية والحفاظ عليها لتقديم البنية الأساسية الخضراء، بما في ذلك القدرة على الوصول إلى الطاقة المتجددة، وأنظمة النقل المتعددة الأنماط الخالية من الانبعاثات، والنطاق العريض العالي السرعة. بالتالي، قد يصبح التحول الأخضر ميزة تنافسية للاقتصادات الناشئة والنامية التي تسعى إلى الانضمام إلى أنظمة الإنتاج العالمية والوفاء بالتزاماتها بموجب اتفاق باريس. وبدوره، من الممكن أن يؤدي الاهتمام المتزايد من جانب الحكومات إلى تشجيع الشركات الرائدة على الانخراط في استثمارات إزالة الكربون المشتركة.

لتحقيق الإمكانات الكاملة لهذه الحلقة الحميدة من ضغوط إزالة الكربون المفروضة على الشركات الرائدة في سلاسل القيمة العالمية والبلدان المضيفة، يجب زيادة الشفافية وإمكانية التتبع على مستويات الإنتاج وجوانب سلسلة القيمة كافة. في غياب القياس الدقيق لبصمات الكربون والتنفيذ المتسق للمعايير الدولية، تـعـجـز قوى السوق والهيئات التنظيمية عن الاضطلاع بأدوارها الحيوية.

الواقع أن بنوك التنمية المتعددة الأطراف قادرة على تسهيل الاستثمارات المستدامة على طول سلاسل القيمة، فتعمل على دمج أفضل التكنولوجيات والمعايير في حين تساعد في ضمان الشفافية وإمكانية التتبع في ما يتعلق بالانبعاثات من غاز ثاني أكسيد الكربون. يمكنها أيضاً أن تساعد المستثمرين من القطاع الخاص في إدارة مخاطر السياسات، والتي تعمل في الأغلب الأعم على تثبيط الاستثمار في البنية الأساسية. في غياب رأس المال الخاص والمؤسسي، لن تتمكن الاقتصادات الناشئة والنامية من إغلاق فجوة البنية الأساسية مع البلدان المتقدمة.

لقد سلطت الجائحة الضوء على أهمية سلاسل القيمة العالمية بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، وخاصة في مساعدة الاقتصادات الناشئة والنامية على تسلق سلم القيمة المضافة وسد فجوة الرخاء. لكن الأزمة سلطت الضوء أيضاً على الدور المحتمل الذي تستطيع سلاسل القيمة العالمية أن تضطلع به في التعجيل بالانتقال إلى صافي الصفر في مختلف البلدان والقطاعات. وكما يدرك قادة العالم، سوف نكون في احتياج إلى كل أداة متاحة لضمان مستقبل مستدام.

 

* كبير خبراء الاقتصاد لدى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية.

opinion@albayan.ae

Email