«صيرفة مركزية» تؤمّن الاقتصاد العالمي الكلي

فيليب تيرنر

ت + ت - الحجم الطبيعي

نحن لا نملك ترف إهدار أي وقت في إنشاء الإجراءات اللازمة لتقليص خطر تخلي البنوك المركزية في الدول الغربية المتقدمة، عن مسؤولياتها تجاه الاقتصاد الكلي والنقد الدولي. إذ كانت البنوك المركزية المستقلة القادرة على ملاحقة تدابير مبتكرة، وبالتالي مثيرة للجدل، بين أكبر نجاحات السياسة الاقتصادية طوال السنوات العشرين الأخيرة. ولا شك أن تآكل استقلاليتها يشكل تهديداً تجب مقاومته بكل ما في الكلمة من معنى.

تُـرى كم مرة سمعت أن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يعمل وفقاً لتفويض مزدوج يتمثل في تعزيز استقرار الأسعار وتحقيق القدر الأقصى من تشغيل العمالة؟ هل كنت تعلم أن هذا الادعاء كاذب؟ بموجب قانون إصلاح الاحتياطي الفيدرالي لعام 1977، يضطلع الاحتياطي الفيدرالي أيضاً بتفويض ثالث: ضمان أسعار فائدة معتدلة طويلة الأجل.

لا شيء غير عادي في هذا الهدف، فقد سعت البنوك المركزية على مر السنين إلى منع الزيادات المفاجئة في عائدات السندات الحكومية. في ثلاثينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، أرادت وزارة الخزانة الأمريكية أن يضع الاحتياطي الفيدرالي سقفاً لعائدات السندات، وانتهى الأمر إلى التوصل لحل وسط وافق الاحتياطي الفيدرالي بموجبه على الحفاظ على ظروف منتظمة في السوق. وحتى اتفاقية الخزانة والاحتياطي الفيدرالي لعام 1951، التي أعادت الاستقلالية إلى البنك المركزي بعد الحرب العالمية الثانية، ألزمت الاحتياطي الفيدرالي «بضمان التمويل الناجح لمتطلبات الحكومة، وفي الوقت ذاته تقليل تحويل الدين العام إلى نقود إلى أقصى درجة ممكنة».

الواقع أن الاحتياطي الفيدرالي لديه هدف رابع، لأنه مسؤول، مثله في ذلك كمثل جميع البنوك المركزية الأخرى تقريباً، عن ضمان استقرار النظام المالي. تكمن المشكلة هنا في أن أغلب البنوك المركزية الكبرى قبل أزمة 2008 المالية لم تكن تملك سوى أداة واحدة من أدوات السياسة النقدية تستطيع من خلاله تنفيذ هذه المهام: سعر الفائدة لليلة واحدة في أسواق ما بين البنوك، ومن ثَمّ فقد ركز الـفِـكر الأكاديمي التقليدي في تسعينيات القرن العشرين على أداة واحدة قصيرة الأمد، والتي أثبتت كونها مناسبة للغاية لإبعاد البنوك المركزية عن المشاكل السياسية.

لكن وجود أهداف أكثر من أدوات السياسات يُعَـد انتهاكاً لقاعدة تينبيرجن الشهيرة، التي أسميت نسبة إلى يان تينبيرجن، الاقتصادي الهولندي الذي فاز بأولى جوائز نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1969. زعم تينبيرجن أن أهداف السياسة تتطلب أدوات سياسة مستقلة، وفي أعقاب أزمة 2008، ارتقت البنوك المركزية إلى مستوى التحدي من خلال تحويل ميزانياتها العمومية إلى أدوات رئيسية للسياسة النقدية.

لم يكن هذا التطور نتيجة بحتة لوصول سعر الفائدة الرسمي إلى الحد الأدنى الصِـفري، ولم يكن غير تقليدي بشكل خاص، مع الأخذ في الاعتبار أن البنوك المركزية استخدمت دوماً ميزانياتها العمومية على نطاق واسع. مع ذلك، لم نشعر بعد بالتأثير الاقتصادي الكامل لمجموعة أدوات السياسة الأكبر والأكثر تنوعاً.

لنتأمل هنا حالة البنك المركزي الأوروبي. عندما كان سعر الفائدة للأجل القصير الأداة الوحيدة لديه، كانت ذات السياسة النقدية تنطبق على جميع بلدان منطقة اليورو بصرف النظر عن الظروف الوطنية. من خلال سياسة الميزانية العمومية، كان بوسعه معالجة هذه الفجوة جزئياً باسم ملاحقة هدف التضخم بنسبة 2% في مختلف أنحاء منطقة اليورو. على سبيل المثال، يُـعَـد برنامج الإقراض الخاص المتوسط الأجل للبنوك، في ظل الشروط ذاتها التي تنطبق على الجميع، جذاباً للبنوك في البلدان التي تفتقر إلى القدرة على الوصول إلى الأسواق أو حيثما كانت القروض المصرفية أكثر تكلفة. ويمكن الدفع بحجة مماثلة عندما يتعلق الأمر بشراء الأصول المالية في الأسواق التي تتحمل ضغوطاً كبرى.

وعلى هذا، فإن سياسات الميزانية العمومية التي ينتهجها البنك المركزي الأوروبي من الممكن أن توفر حافزاً نقدياً أكبر في البلدان، حيث تشتد الحاجة إليها.

إن وضع الميزانية العمومية في قلب السياسة النقدية يرقى إلى مستوى الثورة. كما زَعـمتُ في دراسة مفردة حديثة لصالح المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، فإن التوسع النقدي الراديكالي بأي ثمن نجح في منع ثلاث صدمات ضخمة (الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وشبه انهيار اليورو في عام 2012، وجائحة مرض فيروس كورونا 2019) من إشعال شرارة ركود عالمي في وقت كانت السياسات المالية في الولايات المتحدة وأوروبا تقييدية. وأثبت دوام القوى الانكماشية لفترة طويلة صحة هذا الاختيار السياسي.

لكن كل ابتكارات السياسة تخلق مخاطر جديدة، والآن نجد خطراً أعظم يتمثل في تعدي التحول إلى التراخي المالي الحكومي على استقلال السياسة النقدية. علاوة على هذا، من الممكن أن يتسبب التعرض الأكبر للمخاطر المالية، وخاصة في أسواق السندات، في جعل إحكام قيود السياسة النقدية مسعى أشد خطورة، مع تعاظم خطر حدوث أخطاء في السياسة.

الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن نجاح سياسات الميزانية العمومية خلق توقعات غير واقعية حول ما يمكن أن تحققه البنوك المركزية. إن النطاق اللامحدود والتنوع الشديد الذي تتسم به أدوات الميزانية العمومية يعني أن عامة الناس يمكنهم أن يتوقعوا، منطقياً وإن لم يكن بحكمة، أن تحقق البنوك المركزية أهدافاً جديدة عديدة.

كيف يمكن حماية البنوك المركزية إذن لتنفيذ السياسة النقدية بطريقة فَـعّـالة، يتعين عليها أن تحتفظ بالحق في بيع أي أصل تشتريه، سواء كان في هيئة سندات خضراء، أو سندات في البنية الأساسية، أو أوراق مالية مدعومة بالرهن العقاري، أو أوراق مالية أجنبية، أو أي شيء آخر. ولكن فوق كل هذا، نحتاج إلى مراجعة مستقلة للتكاليف والفوائد المترتبة على معاملاتها. ويُـعَـد مكتب التقييم المستقل التابع لصندوق النقد الدولي نموذجاً يمكن محاكاته لتحقيق هذا الغرض.

قد تطلب البنوك المركزية أيضاً من حين إلى آخر توجيهات صريحة من جانب الحكومة عندما تكون معاملات الأصول مدفوعة بأهداف السياسة غير النقدية. كما يجب وضع ترتيبات صريحة مماثلة عندما يخفض القائمون على التنظيم أوزان المخاطر على الأصول المفضلة لدى الحكومة.

لا شيء من هذا سيكون سهلاً. الواقع أن القائمين على البنوك المركزية قادرون تماماً على ارتداء قناع الجدية عندما يشرحون كيف تتناسب تصرفاتهم، أياً كانت، مع مسؤولياتهم الأساسية في ضمان استقرار الاقتصاد الكلي والاستقرار المالي. لكن الضغوط الشديدة المفروضة على البنوك المركزية لحملها على بذل المزيد من الجهد تعني أن بعض التدابير ستقوض مصداقية التزامها بوظائفها الأساسية.

 

* محاضر زائر في جامعة بازل، وزائر متفقد لدى المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في لندن.

opinion@albayan.ae

Email