البنوك المركزية بوصفها المسؤولة عن معالجة أزمات التمويل

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ أوائل عام 2020، اضطرت البنوك المركزية في مختلف الاقتصادات المتقدمة إلى الاختيار بين السعي إلى تحقيق هدف الاستقرار المالي، أو التضخم المنخفض (2 % عادة)، أو تعزيز النشاط الاقتصادي الحقيقي. ودون استثناء، فضلت جميعها الاستقرار المالي، يليه النشاط الاقتصادي الحقيقي، ثم التضخم أخيراً.

نتيجة لهذا، كان البنك المركزي الوحيد في الاقتصادات المتقدمة الذي رفع أسعار الفائدة منذ اندلاع جائحة «كوفيد 19» هو بنك النرويج، الذي رفع سعر الفائدة الرسمي من صِـفر إلى 0.25 % في الرابع والعشرين من سبتمبر.

وبينما ألمح إلى زيادة إضافية محتملة في ديسمبر، وأن سعر الفائدة قد يصل إلى 1.7 % قرب نهاية عام 2024، فإن هذا مجرد دليل إضافي على التردد الشديد من قِـبَـل صناع السياسات النقدية في تنفيذ ذلك النوع من زيادات الأسعار اللازمة لتحقيق هدف التضخم بنسبة 2 % على نحو ثابت.

الواقع أن هذا التردد الشديد من جانب البنوك المركزية في ملاحقة سياسات أسعار الفائدة والميزانية العمومية المتوافقة مع أهداف التضخم التي تحددها لا ينبغي أن يكون مفاجئاً.

في السنوات بين بداية الاعتدال العظيم في منتصف ثمانينيات القرن العشرين والأزمة المالية خلال الفترة 2007 ــ 2008، فشلت البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة في إعطاء الاستقرار المالي الثقل الكافي. من الأمثلة البارزة هنا خسارة بنك إنجلترا لكل سلطاته الإشرافية والتنظيمية عندما مُـنِـح الاستقلالية التشغيلية في عام 1997.

كانت النتيجة كارثة مالية، فضلاً عن انكماش دوري حاد. وتأكيداً لمنطق «لا يُـلدَغ الـفَـطِـن من جحر مرتين» استجابت البنوك المركزية لجائحة «كوفيد 19» بملاحقة سياسات جريئة إلى حد غير مسبوق لضمان الاستقرار المالي، لكنها ذهبت أيضاً إلى ما هو أبعد من المطلوب كثيراً، فلم تدخر جهداً في دعم النشاط الاقتصادي الحقيقي.

كانت البنوك المركزية محقة في إعطاء الأولوية للاستقرار المالي على استقرار الأسعار، على اعتبار أن الاستقرار المالي في حد ذاته شرط أساسي لاستقرار الأسعار المستدام، ولتحقيق هدف بعض البنوك المركزية الأخرى، أو التشغيل الكامل للعمالة.

الواقع أن التكلفة الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على اندلاع أزمة مالية، وخاصة مع ارتفاع معدلات الاستدانة الخاصة والعامة إلى المستوى الذي نشهده اليوم، ستكون باهظة إلى الحد الذي يجعل تكلفة التجاوز المستمر لهدف التضخم تبدو ضئيلة للغاية بجانبها.

من الواضح أن تجنب معدلات التضخم الشديدة الارتفاع أمر واجب، لأنها أيضاً قد تتحول إلى مصدر لعدم الاستقرار المالي، ولكن إذا كان منع الكارثة المالية يتطلب بضع سنوات من التضخم المرتفع في خانة الآحاد، فإن هذا الثمن يمكن تحمله.

أتمنى (وأتوقع) أن تكون البنوك المركزية، وخاصة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، مستعدة للاستجابة على النحو المناسب إذا انتهكت الحكومة الفيدرالية الأمريكية «سقف الديون» في الثامن عشر من أكتوبر أو نحو ذلك التاريخ.

على أية حال، سيترتب على التخلف عن سداد الديون السيادية الأمريكية تأثيرات عالمية ضخمة ومدمرة تصيب الاقتصادات المتقدمة والأسواق الناشئة والنامية على حد سواء، فالديون السيادية الأمريكية يُـحـتَـفَـظَ بها على نطاق واسع في مختلف أنحاء العالم، ويظل الدولار الأمريكي العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم.

حتى بدون جرح الذات مثل ذلك الناجم عن فشل الكونغرس الأمريكي في رفع أو تعليق سقف الديون، فإن الهشاشة المالية متفشية في الوقت الحاضر، فقد تنامت الميزانيات العمومية للأسر، والشركات، والميزانيات المالية والحكومية لتسجل ارتفاعات غير مسبوقة هذا القرن، مما جعل القطاعات الأربعة أكثر عرضة للصدمات المالية.

البنوك المركزية هي القوى الاقتصادية الفاعلة الوحيدة القادرة على معالجة أزمات التمويل والسيولة في السوق التي أصبحت الآن جزءاً من المعتاد الجديد.

الواقع أن البنوك المركزية، التي تعمل عمل الملاذ الأخير للإقراض والملاذ الأخير لصناعة السوق، ستكون مرة أخرى ركيزة أساسية في سلسلة من الأحداث التي ستكون فوضوية بكل تأكيد.

وسوف تكون مساهماتها في تعزيز الاستقرار المالي العالمي اليوم أعظم أهمية من أي وقت مضى. الآن، من الممكن أن ينتظر هدف التضخم بنسبة 2 % وهدف تحقيق أقصى حد من تشغيل العمالة، لكن الاستقرار المالي من غير الممكن أن ينتظر.

وبما أن عمليات الملاذ الأخير للإقراض والملاذ الأخير لصناعة السوق تُـدار في منطقة معتمة بين الافتقار إلى السيولة والإفلاس، فقد اتسمت أنشطة البنوك المركزية من هذا القبيل بخصائص شبه مالية. على هذا فإن الأزمة التي تكاد تنقض الآن ستؤدي حتماً إلى تقليص استقلالية البنوك المركزية.

* أستاذ الشؤون الدولية والعامة المساعد في جامعة كولومبيا.

 

Email