نمو حقيقي يستثمر في الإمكانات البشرية

ت + ت - الحجم الطبيعي

عادة ما تستهدف السياسات الصناعية في شرق آسيا الشركات المصنِعة الأكبر والأكثر إنتاجية، والتي من المرجح أن تصبح مصدرة. وبدل ذلك، يجب أن تركز «السياسات الصناعية» المستقبلية في الغالب على شركات الخدمات الصغرى، التي لا يحتمل أن يكون معظمها شركات مصدِرة. ويمكن لهذا الجيل الجديد من السياسات الصناعية التي تستهدف الشرائح ذات الإنتاجية المنخفضة أن يعزز سبل عيش الفقراء في المدن، ويعزز الإنتاجية في قطاعات الاقتصاد التي تستوعب العمالة، ولكن أيضاً هناك محاذير كثيرة بشأنه.

إن أحد الآثار المترتبة على ذلك هو أن السياسة الاجتماعية وسياسة النمو سوف يتداخلان بصورة متزايدة. وأفضل سياسة اجتماعية- تمكين الحد من الفقر بصورة مستدامة وتعزيز الأمن الاقتصادي- هي خلق وظائف أكثر إنتاجية وأفضل للعمال ممن ذوي المهرات المتدنية. وبعبارة أخرى، يجب أن تركز السياسة الاجتماعية على الشركات بقدر تركيزها على الأسر. ويشير السياق العالمي والتكنولوجي الجديد إلى أن تحقيق النمو الاقتصادي رهين الآن بزيادة الإنتاجية في الشركات غير الرسمية الصغرى، التي توظف غالبية الفقراء والطبقات المتوسطة الدنيا. وقد تصبح سياسة التنمية موحدة في النهاية.

لطالما اعتمدت سياسة التنمية على نوعين من النهوج. ويستهدف الأول الفقراء بصورة مباشرة، ويسعى إلى التخفيف من فقر فُرادى الأسر المعيشية من خلال دعم الدخل، ويركز النهج الثاني على تعزيز الفرص الاقتصادية ورفع الإنتاجية الإجمالية- من خلال اعتماد سياسات الاقتصاد الكلي والتجارة أو القيام بإصلاحات قانونية وتنظيمية على المستوى الاقتصادي. ويمكنك أن تسمي النهج الأول سياسة اجتماعية والثاني سياسة تنموية.

ويعتبرهذان النوعان من السياسات مكملان بصورة عامة. فالنمو الإجمالي قد لا يساعد الجميع دائمًا، خاصة الفقراء منهم. ومن ثم، ستكون برامج مكافحة الفقر ضرورية حتى عندما تؤدي سياسة النمو وظيفتها بالصورة الصحيحة. ولكن، أحياناً، يُنظر إلى السياسات الاجتماعية وسياسات النمو على أنها بدائل.

إن المحددات الحقيقية للفقر قد تكون على مسافة ما من الأسر والمجتمعات الفقيرة. وتتطلب التنمية الاقتصادية وظائف منتِجة غير زراعية. وقد تؤدي زيادة فرص العمل في المدن وتشجيع الهجرة من الريف إلى المناطق الحضرية إلى زيادة الدخل بفعالية أكبر من مساعدة الناس على أن يصبحوا مزارعين أفضل أو تزويدهم بمنح نقدية.

وفي الواقع، جرت العادة أن يكون التصنيع ضروريًا للحد من الفقر. صحيح أنه غالبا ما تستغرق فوائد النمو الاقتصادي القائم على التصنيع وقتًا طويلا لتصل إلى الفئات الفقيرة من المجتمع. فخلال الثورة الصناعية في بريطانيا، تحسنت الظروف المعيشية لعمال المدن ببطء شديد، هذا إن حدث تحسن أصلا، لما يقرب من قرن، إلى أن أدى ظهور النقابات العمالية والتغييرات المؤسسية الأخرى إلى تصحيح اختلال توازن القوى مع أرباب العمل. ولكن التصنيع السريع الموجه نحو التصدير الذي شهدته مؤخرا نمور شرق آسيا والصين قد اختصر هذه العملية، وأنتج معجزات للحد من الفقر إلى جانب معجزات لتحقيق النمو.

إن نموذج النمو هذا لا يرقى إلى أسس المساواة أو الحد من الفقر؛ بل أخفق أيضا في تعزيز قدر كبير من النمو لأن الأنشطة ذات الإنتاجية العالية لا يمكن أن تشمل حصة متزايدة من الاقتصاد. لكن نموذج التصنيع لم يعد قادرًا على تحقيق نمو اقتصادي سريع ومستدام.

كيف ينبغي إذاً أن يبدو نموذج النمو اليوم؟ كما هو الحال دائمًا، تبقى الاستثمارات في رأس المال البشري، والبنية التحتية، ومؤسسات بمستوى أفضل، ضرورية لتحقيق مكاسب اقتصادية طويلة الأجل. وهذه هي أسس التقارب الاقتصادي مع الدول الغنية. ولكن استراتيجية النمو الحقيقية يجب أن تعزز إنتاجية القوى العاملة الحالية، وليس القوة العاملة التي قد تظهر في المستقبل بفضل هذه الاستثمارات.

أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي بكلية جون إف كينيدي للعلوم الحكومية بجامعة هارفارد، ورئيس الرابطة الاقتصادية الدولية.

Email