رفاهية اقتصادية مصدرها نجاح مبادرات صون البيئة

ويليام د. نوردهاوس

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن التوصل إلى نتيجة مفادها أن السياسات البيئية في الولايات المتحدة ودول كثيرة مشابهة، يضيف إلى النمو الاقتصادي الحقيقي أمراً مهماً لإثراء المناقشات حول السياسة البيئية، وأعتبر هذا انتصاراً كبيراً للحركة الخضراء. السبب وراء هذا الاكتشاف المفاجئ مثير للاهتمام، فإذا عدنا إلى الوراء نصف قرن من الزمن إلى فجر التنظيم البيئي في الولايات المتحدة، سنجد أن العوامل الخارجية مثل تلوث الهواء عكست الأنشطة، حيث كانت الفوائد الهامشية المترتبة على خفض التلوث أكبر كثيراً من التكاليف الهامشية. كانت السياسة البيئية تتلخص في واقع الأمر في قطف الثمار الدانية، وغير المكلفة، ما يقلل من الأضرار الصحية، وغير ذلك من الأضرار بشكل كبير بأقل قدر من التكلفة.

إذا اكتفينا بالنظر إلى الحسابات الاقتصادية المعتادة، فسوف نفتقد إلى حد كبير التحسينات الطارئة على الرفاهة الاقتصادية المرتبطة بقطف الثمار البيئية الدانية، لأن الفوائد الصحية المترتبة على التنظيم البيئي لا تُـحـتَـسَـب في الحسابات القياسية، ولكن إذا وسعنا آفاقنا لتشمل الفوائد الخارجية، فإن نصف القرن الأخير من السياسات البيئية عمل حقاً على تحسين النمو بشكل كبير.

ذات يوم، في رحلة مُـغادِرة من ألبوكيرك، كنت أقرأ مقالاً في مجلة لامعة ينتقد الناتج الوطني الإجمالي، عندما صادفت التعليق التالي من «راديكالي شاب»: «لا تحدثني عن ناتجك الوطني الإجمالي. من منظوري، هو في حقيقة الأمر التلوث الوطني الإجمالي».

تشير أغلب المناقشات، التي تتناول الناتج الوطني، خاصة في أمريكا، إلى الناتج المحلي الإجمالي: قيمة السلع والخدمات التي ينتجها الاقتصاد، مطروحاً منها قيمة السلع والخدمات المستخدمة في إنتاجها، وعلى هذا فإن الناتج المحلي الإجمالي يشمل سلعاً استهلاكية مثل الغذاء، والسلع الاستثمارية مثل المساكن الجديدة، والإنتاج لصالح الحكومة، والتعديلات المعبرة عن التجارة الخارجية.

لا يسلم الناتج المحلي الإجمالي من الانتقادات. تتمثل إحدى المشكلات الأساسية في أنه يضم إجمالي الاستثمار، ولا يخصم الاستهلاك، ومن ثَـم فإنه يشمل كل المساكن الجديدة، التي بنيت في خلال عام، لكنه لا يخصم المساكن التي تدمرها حرائق الغابات. المقياس الأفضل في هذا السياق يضم فقط صافي الاستثمار كونه جزءاً من إجمالي الناتج. من المفيد أيضاً التركيز على دخل السكان، والذي يمثله الناتج الوطني، وليس الناتج المحلي. من خلال طرح الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي والنظر إلى دخل السكان، يمكننا الحصول على صافي الناتج الوطني.

إذا كان صافي الناتج الوطني مقياساً أكثر دقة لناتج البلد، فلماذا تعتمد الحسابات الوطنية على الناتج المحلي الإجمالي؟ من بين الأسباب وراء ذلك أن الاستهلاك يصعب تقديره، في حين يمكن تقدير إجمالي الاستثمار بقدر معقول من الدقة.

يتفق معظم المتخصصين على أهمية التصحيح المعبر عن التلوث، وتغير المناخ، وغير ذلك من الأنشطة غير السوقية والعوامل الخارجية في الحسابات الاقتصادية، لكن كيف يمكن القيام بهذا في الممارسة العملية؟ كيف يمكننا معرفة كيفية طرح الضرر الاقتصادي الناجم عن تلوث المياه أو الانبعاثات من ثاني أكسيد الكربون من قيمة الغذاء والمأوى؟

يبدو هذا أشبه بمهمة مستحيلة، لكن الراحل مارتن ويتسمان من جامعة هارفارد أشار إلى الطريق.

الواقع أن النهج الذي أُدمِـج في المحاسبة الخضراء (أو محاسبة الدخل الكامل)، بَـدَهي تماماً، تتلخص الفكرة في توسيع نطاق الحسابات الاقتصادية الوطنية المعيارية ــ التي تغطي المعاملات في السوق ــ لتشمل الأنشطة أو العمليات غير السوقية. وتجمع الحسابات المعيارية البيانات حول كم الإنتاج والأسعار (التفاح، والأخشاب، والبنزين، والسيارات، وما إلى ذلك)، وتحسب القيم كمنتج للأسعار والكميات، ثم تحسب الناتج الوطني الإجمالي كمجموع القيم من المخرجات النهائية المباعة للمستهلكين والقطاعات الأخرى.

يفترض هذا النهج أن العوامل الخارجية الضارة يجري تسعيرها ثم تضاف قيمتها إلى المجمعات، لكن سعر الأنشطة الضارة هنا سلبي لأنها «مساوئ» وليست «منافع». إذا كان حجم التلوث في عام واحد خمسة ملايين طن، وكان الضرر الناجم عن تلوث الهواء يعادل 100 دولار للطن، فيجب خصم 500 مليون دولار من الناتج الوطني.

ربما تبدو هذه العملية واضحة ومباشرة، غير أن مفهوم «سعر التلوث» قد يكون محيراً، فمن الممكن ملاحظة سعر البطاطس في محل البقالة، ولكن ما هو سعر ثاني أكسيد الكربون المنبعث من شاحنة؟ من منظور الشركة وحساباتها التجارية، فإن السعر هو صِـفر، ولهذا السبب لا يوجد بند يسمى «مبيعات تلوث الهواء بأول أكسيد الكربون» في الحسابات الاقتصادية الوطنية، لكن التكلفة التي يتحملها الناس ليست صِـفراً، لأن التلوث بأول أكسيد الكربون يضر بصحة الإنسان.

وفقاً لذاك النهج، فإذا تسبب كل طن من أول أكسيد الكربون في إحداث ضرر بقيمة 100 دولار، فهذا هو السعر المناسب الذي يجب استخدامه عند طرح تكاليف التلوث، وغير ذلك من العوامل الخارجية في حساب الناتج الأخضر، ولكن، بطبيعة الحال، من الصعب للغاية حساب تكاليف مثل هذا التلوث وغيره من العوامل الخارجية، لأن البيانات شحيحة في أفضل تقدير (إذا كان لها أي وجود على الإطلاق).

بسبب هذه المشكلة وغيرها من صعوبات القياس، لا توجد حسابات بيئية شاملة لأي بلد، ولكن يمكننا استخدام الأبحاث القائمة المتناثرة للحصول على لمحة من كيفية إنشاء الحسابات البيئية أو سهولة بنائها لمراعاة أمور مثل الانبعاثات من الغازات المسببة للانحباس الحراري الكوكبي وتلوث الهواء.

من منظور مفاهيمي، تتمثل نقطة البداية في صافي الناتج الوطني. عند إنتاج تقدير ما، يمكننا حساب تصحيح المستوى وتصحيح النمو، حيث يضيف تصحيح المستوى أو يخصم التقديرات للعوامل الخارجية السلبية أو غير ذلك من أشكال الإغفال من صافي الناتج الوطني. إذا كانت هذه العوامل الخارجية في ازدياد، فسوف يؤدي هذا إلى تقليص معدل النمو الأخضر، أما إذا كانت في انكماش، فسوف يزداد معدل النمو الأخضر.

يشير أحد التقديرات إلى أن سعر الكربون سيكون أعلى بنحو خمس مرات في ظل الهدف الأكثر صرامة. وباستخدام ذات الطريقة يكون تصحيح المستوى للتعبير عن هدف الدرجتين المئويتين أكبر كثيراً، عند مستوى 8 % لعام 2018، ويكون تصحيح النمو أيضاً أكبر بالقدر ذاته.

عندما تكون التكاليف البيئية أكبر، فإن هذا يعني ضمناً أن الناتج الحقيقي أقل أيضاً من الناتج المقاس تقليدياً، ولكن عندما تكون التكاليف البيئية في انخفاض، يكون تصحيح النمو إيجابياً وأكبر.

والآن يمكننا أن ننتقل إلى مشكلة أكثر تعقيداً: تلوث الهواء. يشمل هذا بعض العوامل الخارجية الأشد فتكاً والأعظم تكلفة، كتلك المرتبطة بإحراق الفحم، وغير ذلك من الأنشطة. أغلب هذه الأنشطة خاضعة للتنظيم في الولايات المتحدة، لكن قِـلة منها مُـسَـعَّـرة على مستوى يعكس تكاليفها الاجتماعية.

إن معظم مقاييس التلوث كانت في انخفاض نسبة إلى الاقتصاد في الإجمال ــ نتيجة لمحطات الطاقة والمصانع والسيارات الأكثر نظافة. إن تأثير نمو التلوث نسبة إلى السلع والخدمات الأخرى هو الذي يؤثر على معدل النمو.

* حائز جائزة نوبل في الاقتصاد وأستاذ في جامعة ييل.

هذا المقال مقتبس من كتاب «روح الـفِـكر الأخضر: اقتصاد التصادم والعدوى في عالم مزدحم»

opinion@albayan.ae

Email