المرونة والابتكار يمنعان القوالب والوصفات المدمرة

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما يفشل نهج ما، يعمل المهندسون والمخططون على نقاط النفوذ ــ أو «نقاط الدخول الأساسية» لابتداع نهج وقالب جديد مبتكر. تلك هي المسألة الجوهرية في صلب أية مسارات تقدم وتطوير صناعي أو اقتصادي او قيادي. فلا بد دوماً من «التحلي بالمرونة». ففي نهاية المطاف «لا يوجد نموذج صادق تماماً»، وجميع القوالب والنماذج، بما في ذلك تلك التي تشكل برفق نظرتك للعالم، تقدم فهماً محدوداً للغاية لكون هائل ومذهل. لماذا نسلم أنفسنا للمزيد من القيود ــ ونستدعي قدراً أعظم من الجمود والفوضى ــ بالتمسك بمنطق المحصلة صِـفر، والتفكير الثنائي، والمنافسة العبثية؟

نحن نعيش في عصر من الجمود الجهازي، والفوضى السياسية، والإخفاقات الناجمة عن الصدمات المفاجئة. ينطبق هذا على جائحة (كوفيد 19) ــ وهي أزمة أخرى متعددة الأبعاد ولا يوجد لها حل سحري. حتى السياسات المصممة بعناية، والتي تحفزها أفضل النوايا، قد تفشل في إحداث الأثر المقصود ــ وكثيراً ما تؤدي إلى تفاقم المشكلات بطرق لا يمكن توقعها ــ بسبب أخطاء التنفيذ.

يمكن تلخيص المشكلة في انعدام التوافق الناجم عن تعقيدات. الواقع أن الأزمات والتحديات المتباينة التي تواجهنا ــ مثل الإرهاب، والأوبئة، والمعلومات المضللة ــ تنطوي على خصائص فيروسية متشابكة، وتسمح الشبكات العالمية المعقدة للمشكلات المتولدة محلياً بالنمو والانتشار بشكل أسرع كثيراً من الحلول. مع ذلك، يكون النموذج الذي نبني عليه عملية صنع السياسات خطياً، وميكانيكياً و«عقلانياً». يمكننا تتبع هذا النهج إلى فلاسفة سياسيين مثل توماس هوبز، الذي قدم نهجاً مباشراً يجري من القمة إلى القاعدة في حُـكم المجتمع البشري، استناداً إلى حقائق «كونية». والنموذج النيوتوني الديكارتي، الذي يوجه الـفِـكر الاقتصادي، ميكانيكي على نحو مماثل، ويتبع «نظرية كل شيء» السرمدية التي تأتي في مقاس واحد يناسب الجميع.

لكن في حين قد يساعد هذا النهج في فهم أو حُـكم الدول أو المجتمعات الصغيرة، فإنه غير عملي في التعامل مع نظام عالمي شديد التعقيد. مع ذلك، نظل على التزامنا به. وهذا يجعلنا عاجزين عن رؤية حقائق واضحة ــ بما في ذلك عمانا ــ كما يجعلنا عُـرضة للوقوع في فخاخ نظرية، فضلاً عن مشكلات العمل الجماعي التي تديم التردد، والتقاعس عن العمل، وعدم الاتساق. وفي غياب نهج جيد يعبر عن التعقيد الحقيقي الذي يتسم به عالمنا، سنظل عُـرضة للصدمات المفاجئة الناجمة عن الإخفاقات الجهازية.

ينبغي لنا أن ننظر إلى الطبيعة. فكما أشار عالِـم الأحياء ستيوارت كوفمان، لاحظ فيلسوف القرن الثامن عشر إيمانويل كانط أن كل شيء في الطبيعة «لا يدين بوجوده للأجزاء الأخرى فحسب، بل يُـنظَـر إليه أيضاً على أنه موجود من أجل الأجزاء الأخرى والكل» ــ هذا «على اعتباره أداة (عضوية)». بعبارة أخرى الكل أكبر من جموع أجزائه، وتربط كل من آليات المردود السلبي والإيجابي بين الأجزاء المختلفة التي تشكل ــ وتحول ــ الكل.

إذا كانت الأرض عبارة عن نظام حي واحد، فإن إدارة كل مكون على حِـدة لن تكون غير فَـعّـالة فحسب؛ بل ستخلف أيضاً عواقب وخيمة محتملة غير مقصودة. على نحو مماثل، في نظامنا العالمي الأوسع، الذي يتضمن أجزاء حية وأجزاء أخرى غير حية، ستكون السياسات القائمة على منطق الـمُـحَـصِّـلة صِـفر قاصرة دوماً ــ أو ما هو أسوأ.

يتمثل أحد المناهج المتفوقة، كما زعمت الراحلة دونيلا ميدوز، في التركيز على ما يسمى «نقاط النفوذ» في الأنظمة المعقدة، حيث من الممكن أن يُـفضي تحول طفيف في شيء واحد إلى إحداث تغيرات ضخمة في كل شيء. الواقع أن المشكلات ليست مسامير يمكن طرقها، بل هي أعراض لعيوب جهازية يمكن التعامل معها على أفضل وجه من خلال العمل في إطار مجموعة من المؤسسات القادرة على تحمل الأعباء.

قد يعني هذا، على سبيل المثال، إدخال تغييرات على إعانات الدعم، والضرائب، والمعايير؛ أو تنظيم حلقات المردود السلبي وتشجيع المردود الإيجابي؛ أو تحسين أو الحد من تدفق المعلومات؛ أو تحديث الحوافز، والعقوبات، والقيود. وبشكل حاسم، قد يعني هذا أيضاً تغيير العقلية أو النموذج الذي تنشأ منه أهداف النظام، وهياكل السلطة، والقواعد، والثقافة.

قدمت أيضاً العالِـمة السياسية إلينور أوستروم الحائزة على جائزة نوبل رؤى بالغة الأهمية في إدارة الأنظمة المعقدة ــ على وجه التحديد، الإفلات من فخ العمل الجماعي. كما تشرح أوستروم، ينشأ هذا الفخ من التفكير الثنائي ذي المحصلة صفر. وعلى هذا فإن السبيل إلى تجنبه يتمثل في خلق مشاعات محلية تشمل الأفكار والممتلكات والقيم والالتزامات المشتركة. ومع تشابك وتداخل مصائرنا ومصالحنا ــ التي تعمل على آفاق زمنية طويلة ــ يصبح من المرجح بشكل أكبر كثيراً أن تعمل الأطراف المختلفة معاً لتجنب «مأساة المشاعات».

من المؤسف أن التيار السائد الذي يهمين عليه الذكور تجاهل إلى حد كبير رؤى ميدوز وأوستروم. لكن أفكارهما تتماشى مع النظرة الصينية للعالم القائمة على المادية العضوية، كما أوضح عالِـم الصينيات (الحضارة الصينية) البريطاني جوزيف نيدهام.

* زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ، وعضو المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لشؤون التمويل المستدام.

* رئيس مؤسسة هونغ كونغ للتمويل الدولي، وأستاذ ومدير معهد السياسة والممارسة التابع لمعهد شينزن للتمويل في الجامعة الصينية في هونغ كونغ، شينزن.

 

Email