الصين..قدرات مالية وتكنولوجية متفوّقة

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

بينما تفتح الصين أسواق رأس المال، فإنها أيضاً تدفع بهدوء إلى الأمام تطوير العملة الرقمية التي يصدرها بنكها المركزي. في الوقت الحالي، يجري اختبار هذه العملة الرقمية في إطار عينة تمثيلية من عشر مدن رئيسية، تضع الصين في مرتبة متقدمة كثيراً عن الغالبية العظمى من البنوك المركزية الأخرى، ففي حين بدأت %80 من البنوك المركزية في تصميم نظام للعملة الرقمية، وصلت %16 فقط منها إلى المرحلة التجريبية.كانت الصين تعمل أيضاً على تطوير نظام دفع رقمي عبر الحدود، والآن انضم بنك الشعب الصيني إلى السلطة النقدية في هونغ كونغ، وبنك تايلاند، والبنك المركزي في دولة الإمارات العربية المتحدة، لإطلاق مشروع بحثي متعدد الأطراف، جسر عملة البنك المركزي الرقمية التعددي، الذي سيستكشف طرقاً لدمج العملات الرقمية في أنظمة الدفع عبر الحدود.

في حين تُعـرَض عملة البنك المركزي الصيني الرقمية حالياً على أنها قسيمة دفع نقدي، فإن إمكاناتها أضخم كثيراً. بينما تعمل مبادرة الحزام والطريق الصينية على تسهيل الزيادة في تدفقات التجارة والاستثمار، ستساعد عملة البنك المركزي الصيني الرقمية في توسيع استخدام الرنمينبي في تسوية المعاملات عبر الحدود، وتقليل الاعتماد على شبكة سويفت التي تقودها الولايات المتحدة، وإرساء الأساس لإنشاء شبكة دفع بالعملة الرقمية الإقليمية أكثر ملاءمة بقيادة الصين. الأمر الأكثر أهمية أن عملة البنك المركزي الرقمية ستساعد الصين بكل تأكيد على تدويل ديونها المحلية التي تقدر قيمتها بتريليونات الدولارات، وبالتالي خلق سوق ضخمة لتحويل الرنمينبي إلى عملة تدويل.

أياً كانت التحديات التي تواجه الصين، لم يعد من الممكن تجاهل صعودها. ولا تزال نبوءة سوبرامانيان التي مضى عليها عشر سنوات سارية، وسوف تحدث بسرعة أكبر وعلى نحو أكثر شمولاً من توقعات معظم المراقبين.

تميل القوى العظمى في التاريخ إلى تقاسم شيء واحد مشترك: أهمية الحجم، في حين لا تضمن السوق الضخمة الهيمنة في مجالات أخرى، فمن المؤكد أنها تساعد، وربما أكثر من أي عامل آخر منفرد. كان هذا صادقاً في حالة الولايات المتحدة، وهو ينطبق الآن على الصين، فإلى جانب كونها قوة اقتصادية وتجارية رائدة، تتحول الصين على نحو متزايد، وبلا هوادة، إلى قوة مالية عالمية.

بطريقة ما، لم يتوقع كثيرون من خبراء الاقتصاد في الغرب حدوث مثل هذا التطور، حتى قبل عشر سنوات فقط، كان قِـلة منهم متفائلين بشأن نمو قوة الصين المالية الخارجية، حيث سلط المشككون الضوء على نقاط الضعف التي تعيب الصين.

الاستثناء النادر هنا هو أرفيند سوبرامانيان من جامعة براون، في كتابه الصادر عام 2011 بعنوان «الخسوف: الحياة في ظل هيمنة الصين الاقتصادية»، زعم سوبرامانيان أن هيمنة الصين لم تكن وشيكة وحسب، بل ستكون أيضاً أوسع من كل التوقعات تقريباً، فتنطوي على نفوذ مالي ضخم بين المجالات التي ستعيد الصين تشكيلها. نظراً لبصيرته الثاقبة، ربما كان عنوان الترجمة الصينية لكتابه «النبوءة الكبرى» أكثر ملاءمة.

ولكن لماذا رأى سوبرامانيان ما لم يره أغلب أهل الاقتصاد؟ كان النموذج الذي استخدمه، على عكس الإطار التحليلي القياسي للاقتصاد، يتضمن متغير الحجم.

بعد مرور عقد من الزمن، بات من المستحيل تجاهل نفوذ الصين المالي. في غضون الأشهر العشرين التي بدأت في الأول من أبريل 2019، أُضـيـف إلى مؤشر بلومبرغ باركليز العالمي المجمع 364 من السندات الصينية الداخلية المقومة بالرنمينبي، والصادرة عن الحكومة الصينية و«بنوك السياسات».

كان إدراج سندات صينية محلية للمرة الأولى في مؤشر عالمي رئيسي علامة فارقة في انفتاح الأسواق المالية الصينية. وأعقب ذلك المزيد من التقدم، حيث أضاف بنك جيه. بي. مورغان سندات الحكومة الصينية إلى مؤشره الرئيسي في الربع الأول من عام 2020، وسوف تحذو حذوه مجموعة فوتسي راسل، بدءاً من وقت لاحق هذا العام.

بهذا تُصبح السندات الصينية مدرجة في جميع مؤشرات السندات الرئيسية الثلاثة التي يتتبعها المستثمرون العالميون. ليس من المستغرب إذن أن يسجل مؤشر عولمة الرنمينبي، الذي يقيس نمو استخدام الرنمينبي في الخارج، مستويات جديدة من الارتفاع هذا العام، بعد ثلاث سنوات من النمو السنوي بمعدل 40 %.

كان تدويل سوق سندات الصين بهذه السرعة سبباً في التعجيل بتدويل الرنمينبي، وهي عملية سعت الحكومة منذ فترة طويلة إلى تسهيلها. في عام 2010، سمحت الصين للبنوك المركزية، وبنوك مقاصة الرنمينبي الخارجية، والبنوك المشاركة في الخارج، بالاستثمار في سوق السندات بين البنوك في الصين.

في عام 2014، أطلقت الصين رابطة البورصة شنغهاي-هونغ كونغ ورابطة البورصة شنغن-هونغ كونغ بعد ذلك بعامين، وكل منهما تستخدم نظام تسوية الرنمينبي في اتجاهين. كما سمح بنك الشعب الصيني للمستثمرين المؤسسين الأجانب المؤهلين بالوصول إلى سوق السندات بين البنوك في الصين بشكل مباشر، دون حصص أو قيود، منذ عام 2016. وفي عام 2017، أسس بنك الشعب الصيني رابطة سندات الصين، التي تتيح للمستثمرين الأجانب الوصول إلى أسواق الدخل الثابت في الصين القارية عن طريق البنية الأساسية التجارية في هونغ كونغ.

الآن بدأت هذه الجهود تؤتي ثمارها. وفقاً لصحيفة فاينانشال تايمز، اشترى مستثمرون أجانب ما قيمته 35.3 مليار دولار من الأسهم الصينية من خلال رابطتي شنغهاي-هونغ كونغ وشنغن-هونغ كونغ لأسواق البورصة حتى الآن هذا العام، وهذه زيادة سنوية تعادل نحو 49 %. بحلول يوليو ارتفع الرقم إلى 228 مليار دولار من الأسهم الممتازة المقومة بالرنمينبي لشركات مقرها الصين عبر هذه القنوات.

علاوة على ذلك، اشترى مستثمرون أجانب ما قيمته 75 مليار دولار من سندات الحكومة الصينية هذا العام، بزيادة قدرها 50 % على أساس سنوي، ونحو 578 مليار دولار من السندات الصينية عبر قناة روابط سندات الصين. والآن يمتلك مستثمرون أجانب في المجمل نحو 8.6 مليارات دولار من الأسهم والسندات الصينية، بزيادة 40 % مقارنة بالعام السابق.

لا شك أن السياسة النقدية الشديدة التساهل في الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي أثناء جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد- 19) ساعدت في تغذية هذه الزيادة الكبيرة في المشتريات من الأصول الصينية، والآن تتدفق مبالغ ضخمة من الأموال إلى خارج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأصبحت الصين وجهة أكثر أماناً لهذه الأموال من اقتصادات الأسواق الناشئة الأخرى.

لكن هذا لا يعني أن هذا اتجاه قصير الأمد. يُـظـهِـر مسح المستثمر العام العالمي السنوي، الذي ينشره المنتدى الرسمي للمؤسسات النقدية والمالية، أن 30 % من البنوك المركزية تخطط لزيادة حيازاتها من الرنمينبي في غضون عام إلى عامين، مقارنة بنحو 10% في العام الماضي. وفي أفريقيا، تخطط نصف البنوك المركزية تقريباً لزيادة احتياطياتها من الرنمينبي.

نتيجة لهذا، أصبح نصيب الرنمينبي في الاحتياطيات العالمية من النقد الأجنبي يتجه نحو الارتفاع بمتوسط معدل سنوي يقارب نقطة مئوية واحدة على مدار السنوات الخمس المقبلة. تتوقع أبحاث أجراها غولدمان ساكس وسيتي أن الرنمينبي سيكون بين أكبر ثلاث عملات في العالم في غضون عشر سنوات.

* عميد كلية الاقتصاد في جامعة فودان، ومدير مركز الصين للدراسات الاقتصادية في شنغهاي

Email