«منصات التواصل» .. أين نجحت وأين أخفقت؟

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي الآن تتحمل مسؤولية مجتمعية حساسة. وأدى تزايد خيبة الأمل تجاه غالبيتها إلى تزايد المطالب على تقنينها. وأصبح الضغط الآن كبيراً لدرجة أن فيسبوك سعت إلى قيادة الجهود التنظيمية بنفسها، وإطلاق حملات إعلانية مكثفة للتعبير عن دعمها لمثل هذه السياسات. لتنظيم وسائل التواصل الاجتماعي بصورة فعالة، يجب أن نركز على فصل تأثيرات التكنولوجيا، التي ستستمر، عن تأثيرات نموذج عمل معين، والذي يمكن أن يغيره التنظيم. إن المشكلة لا تكمن في السماح للأشخاص بنشر أشياء مجنونة على الإنترنت؛ فطالما أنهم لا يرتكبون أي جريمة، من المفروض أن يعبروا عن أنفسهم بحرية. إن المشكلة، بالأحرى، هي أن وسائل التواصل الاجتماعي تنكسر من خلال نموذج أعمال يعتمد في تحقيقه لأقصى حد من الأرباح على الترويج لأكثر الأفكار جنوناً، وأكثرها إثارة.

ولكن ما هو نوع التنظيم الذي نحتاجه؟ للإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نقدر أولاً الطبيعة التحولية لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي يمكن مقارنتها بتلك التي اتسمت بها المطبعة في أوروبا في القرن الخامس عشر.

فقبل وصول المطبعة إلى أوروبا، كانت الكتب باهظة الثمن، وكان ضرورياً أن يحظى إنتاجها بدعم من الكنيسة الكاثوليكية، وهو ما جعل هذه الأخيرة تحافظ على احتكارها للمعرفة. ولكن بمجرد وصول المطبعة، أصبحت الكتب في متناول طبقة التجار. ولأن معظم التجار لا يجيدون اللاتينية، ارتفع الطلب على الكتب المقدسة المطبوعة بالعامية.

وهكذا، لم تغير المطبعة لغة الكتب فحسب، بل غيرت أيضاً أسلوب النقاش ومضمونه. ورغم أن الحوارات الدراسية في العصور الوسطى كانت شرسة، إلا أنها كان دائماً تناقش بلسان مثقف وبأسلوب راق. ولكن مع وصول المطبعة ظهرت حركة الإصلاح، التي تضمنت نقاشات لاهوتية مليئة بالإهانات والمشاهد المسرحية. وفي ذلك الحين، كما الآن، أدرك الجميع أن المصارعة الفكرية المشحونة ستحقق مبيعات أكبر.

وكان رد فعل المؤسسة الكاثوليكية على ذلك العصر الجديد متعدد الأوجه، لكن ثلاثة من قراراتها تستحق أن يسلط الضوء عليها وهي كالتالي: أعيد تركيز السلطة في يد البابا، وتم إنشاء فهرس الكتب الممنوعة؛ وكُثفت محاكم التفتيش لحماية أرواح الكاثوليك من وعاظ «المعرفة الزائفة». إن المرء يشعر بالضآلة اليوم حين يرى نوع الكتب التي منعتها الكنيسة الكاثوليكية. فقد كان ضمن فهرسها العديد من أهم أعمال المثقفين في الغرب، بما في ذلك نيكولو مكيافيلي، وروينيه ديكارت، وغاليليو غاليلي، وإيمانويل كانط.

وبينما كسرت المطبعة احتكاراً معيناً، نالت وسائل التواصل الاجتماعي من احتكار القلة المريح. فقبل وسائل التواصل الاجتماعي، كان الجميع يتمتعون بحرية التحدث، ولكن لم يكن للجميع الحق في استخدام مكبر الصوت. فرغم أن طباعة النصوص كانت رخيصة نسبياً، إلا أن توزيعها لم يكن كذلك - وكان البث أكثر تكلفة، هذا إذا سُمح به أصلاً.

والنتيجة هي أن الوصول إلى مكبرات الصوت اقتصر على أولئك الذين يعبرون عن الأفكار التي كانت تعتبرها شركات الإعلان مقبولة. ولإدارة هذا الاحتكار المريح، ظهرت طبقة جديدة من الصحفيين، واختاروا الموضوعات التي ستناقش، والكتب التي ستقرأ، والموسيقى التي سيستمع إليها. كما قاموا باختيار المرشحين للرئاسة، وساعدوا في التأثير على الانتخابات، بل وقدموا المشورة للحكومات. وكان صحفيو النخبة هم كهنة النظام الجديد.

وعندما حطمت وسائل التواصل الاجتماعي هذا الكارتل العشائري، كان رد الفعل السريع للسلطة الحالية - كما في القرن السادس عشر - هو محاولة استعادة السيطرة على المعلومات. والعملية العامة هي نفسها: حظر بعض الموضوعات على فيسبوك وعلى المنصات الأخرى، واستبعاد بعض المستخدمين. ومع ذلك، يجب أن نتعلم من التاريخ أن هذا النهج لا يعمل. فالاستشهاد هو أفضل شكل من أشكال الدعاية. إذ يمكن أن يكون «الإلغاء» نقطة انطلاق لتحقيق المزيد من النجاح.

ويتم تسهيل هذا النموذج من خلال حصانة منصات وسائل التواصل الاجتماعي من العواقب القانونية أو تلك المتعلقة بالسمعة.

تضطلع منصات الوسائط الاجتماعية بدورين في مجتمعاتنا العالمية الحالية: فهي تدير شبكات تربط بين مليارات المستخدمين، وتقرر المحتوى الذي يراه هؤلاء المستخدمون. وكان للصحف هذا النوع من الأدوار التحريرية لعدة قرون، لكنها فعلت ذلك في بيئة شديدة التنافسية. ولا يمكن قول الشيء نفسه عن بيئة وسائل التواصل الاجتماعي اليوم. فنظراً لكون فيسبوك يشكل ما يقارب %72 من أسواق وسائل التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة، فهو يعتبر محتكراً قوياً، وينطوي ذلك على عواقب سلبية.

وهذه هي المشكلة التي يمكن أن تساعد القوانين في حلها، من خلال فصل ما هو «اجتماعي» عن ما هو «إعلامي». إذ في العديد من البلدان، يتم فصل شبكة الطاقة الكهربائية - وهو احتكار طبيعي - عن إنتاج الكهرباء. وبنفس الطريقة، يجب أن نفصل البنية التحتية لشبكات التواصل الاجتماعي عن الدور التحريري.

ولا ينبغي إجراء هذه الأنواع من التغييرات من خلال التقاضي أو وضع القواعد التكنوقراطية ولكن بالتشريع. وفي المجتمع الديمقراطي، يجب أن يتخذ الممثلون المنتخبون القرارات السياسية الرئيسية التي تؤثر على تدفق المعلومات. إنني لست متفائلاً بإمكانية سن مثل هذا القانون في أي وقت قريب في الولايات المتحدة. فالممثلون المنتخبون الذين يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي للفوز بإعادة انتخابهم لن يعضوا اليد التي تطعمهم. ولكن لا تنخدع: فهذا هو الحل. وكل شيء آخر هو وسيلة تلطيفية، بل الأسوأ من ذلك أنها وسيلة لتعزيز الاحتكار الحالي.

* أستاذ المالية في جامعة شيكاغو، هو المضيف المشارك لملف podcast Capitalisn’t (بودكاست كابيتاليزنت)

Email