اقتصادات السوق وارتباكاتها في زمن «الجائحة»

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في حقيقة الأمر، حينما يستخدم أهل الاقتصاد كلمة «ضريبة»، فإنهم لا يشيرون إلى الضرائب على الدخل فحسب، بل في عموم الأمر إلى العقوبات المفروضة على المسؤولين عن التلويث، والمحتالين، والمجرمين، والسائقين المتهورين، والمؤسسات المالية التي تخاطر بأموال عملائها، وأي شخص آخر يتسبب في إلحاق الضرر بآخرين. وحينما تستجيب القطاعات الخاصة باللجوء إلى الأنشطة الأقل خضوعاً للضرائب ولكنها مماثلة وظيفياً، فإن هذا يسمى «مراجحة تنظيمية»، وهي مشكلة هائلة حيثما يتسبب النشاط الخاضع للضريبة، مثل التلويث، في إحداث الضرر (كما هي الحال عادة).

كَـشَـفَ تعليق حديث نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» عن الثقب الأسود الذي ابتلع الـفِـكر الاقتصادي المحافظ منذ بلغ أوج نفوذه في ثمانينيات القرن العشرين. ذهب الاقتصاديان كيسي بي موليجان وتوماس جيه. فيليبسون من جامعة شيكاغو، وكل منهما خدم في إدارة دونالد ترامب، إلى استخدام جائحة فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19) للدفع بالحجة لمصلحة نـبـذ ما عدّاه الرأي التقليدي السائد بين أهل الاقتصاد: «الغرض من السياسة الحكومية تصحيح إخفاقات السوق».

بقلب هذه المقولة رأساً على عقب، يزعمون أن «السياسة الحكومية أشد إخفاقاً من السوق وبشكل أكثر تكراراً»، وأن الأسواق تصحح السياسة الحكومية بإنقاذ المواطنين من القرارات الرهيبة التي تتخذها الحكومات على نحو روتيني. وعلى هذا فإن جائحة كوفيد 19 كانت نتيجة لسياسة حكومية. فما حدث أن الفيروس إما أفلت من مختبر ووهان الذي تلقى تمويلاً من حكومة الولايات المتحدة، وإما انتشر لأن السلطات الصينية فشلت في إبلاغ العالم في الوقت المناسب، ولأن حكومة الولايات المتحدة أصدرت إرشادات حملت رسائل متضاربة حول أقنعة الوجه وعمليات الإغلاق. ثم يزعم موليجان وفيليبسون أن مؤسسات خاصة هي التي «سيطرت بسرعة» على الجائحة (كل ذلك بفضل ترامب بالطبع)، حتى برغم أن الفيروس لا يزال متفشياً. وأضافا: «كان إبعاد الحكومة عن الطريق أمراً ضرورياً». وكان ذلك «هدف عملية Warp Speed التي أطلقها الرئيس ترامب».

كانت عملية Warp Speed ناجحة حقاً، ولكنها كانت أيضاً تدخلاً حكومياً كلاسيكياً في السوق الحرة.

يحدث فشل السوق كلما أفضت تصرفات وكيل خاص إلى تكاليف اجتماعية تتجاوز التكاليف الخاصة. مثل هذه الحالات موجودة في كل مكان. حينما يكون الناس عقلانيين وغير أخلاقيين (كما يفترض الاقتصاديون عادة)، فإنهم يصبح لديهم كل حافز ممكن لإلقاء النفايات في الأنهار، وقيادة مركباتهم بسرعة أكبر من الحد الآمن للمشاة وراكبي الدراجات وغيرهم من السائقين، ونشر الأمراض المعدية إلى آخرين إذا شعروا بأنهم تعافوا بالقدر الكافي للخروج. الشيء الوحيد الذي يمنع إخفاقات السوق هو القانون، الذي تخلقه الحكومة وتفرضه. والفكرة القائلة إن «إخفاقات الحكومة» أكثر شيوعاً أو أسوأ من إخفاقات السوق تفتقر إلى التماسك. ففي غياب الحكومة، لن يكون هناك أي شيء سوى إخفاقات السوق.

صحيح أن الحكومات ترتكب الأخطاء. فربما لم تنظم الصين مختبر ووهان بالقدر الكافي، أو ربما أرسلت حكومة الولايات المتحدة الأموال بلا حكمة إلى مختبر أجنبي من دون أن تتأكد أولاً من أنه يعمل بأمان. ولكن ما البديل؟ يدرس الباحثون في مختلف أنحاء العالم فيروسات خطيرة ويعدلونها من أجل تطوير لقاحات وعلاجات ضدها. وإذا أدير هذا العمل بأمان فإنه يكون عظيم القيمة. في سوق حرة تتداول مشاريع البحث والتطوير من هذا القبيل، لن تفرض الحكومة أي ضوابط تنظيمية للسلامة على الإطلاق على المختبرات الخاصة، ويُـسـمَـح للباحثين (وأي شخص آخر) بالعمل كما يحلو لهم.

في بيان غير عادي، كتب موليجان وفيليبسون: «يصوغ الساسة السياسة الضريبية لمصلحة مجموعات مصالح بعينها، ولكن القطاع الخاص يصحح مثل هذه الإخفاقات عن طريق الاستعاضة عن ذلك بأنشطة أقل خضوعاً للضريبة». ومن الواضح أنهما يقولان إن هذه طريقة أخرى تنقذنا بها «الأسواق» من «فشل الحكومة».

كانت حجة «الحكومة الشريرة والسوق الطيبة» مقنعة في ثمانينيات القرن العشرين. ولكنها تلقت ضربة قوية من جراء أزمة 2008 المالية، حينما أنقذت الحكومة «الطيبة» بقيادة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الأسواق المالية من التدمير الذاتي الناجم عن إلغاء الضوابط التنظيمية الذي روج له دعاة السوق الحرة. ثم جاءت ضربة أخرى مع الجائحة، التي نشأت هي ذاتها في الأرجح في سوق (رطبة) حرة في ووهان، حيث يستطيع الناس شراء وبيع حيوانات حية من دون التفات إلى خطر العدوى حيوانية المنشأ.

ساعدت البرامج والتدخلات الحكومية مثل فرض ارتداء الأقنعة على التخفيف من أسوأ تأثيرات الجائحة.

موليجان وفيليبسون اقتصاديان بارعان. ومن العجيب أنهما يستخدمان أسوأ إخفاق للسوق منذ عقود فرصة للمجادلة بأن الأسواق تحل المشكلات التي تخلقها الحكومة. والواقع أن إعادة تعريف التدخل الحكومي الهائل بأنه «الابتعاد عن طريق الأعمال» يبدو في أفضل تقدير محاولة لتبرير انتهازية رئيسهم السابق السياسية من خلال التعامل مع إخفاقاته المتعددة في استخدام الحكومة للتصدي للجائحة أنها استمرار لإنجازه الحقيقي الوحيد. إن هذا النوع من الحجج لن ينقذ اقتصادات السوق الحرة من أحدث إخفاقاتها الأخلاقية والفكرية، ولن يُـفضي إلا إلى نثر بذور الارتباك العام مع استعداد الحكومات لمواجهة موجة أخرى من العدوى.

* أستاذ في كلية الحقوق في جامعة شيكاغو

Email