مخاطر سيطرة الآلة في عالمنا المعاصر

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

قبل بضعة أيام، كنت أنا وزوجتي في طريقنا إلى الخروج من بنايتنا السكنية، ضغطت على الزر المخصص لفتح وغلق الباب أوتوماتيكياً، لكن لم يحدث شيء. لم يكن بوسعنا مغادرة المبنى، إلا بالقفز عبر نافذة. في النهاية، تمكن البواب، الذي تصادف وجوده في الخارج، من فتح الباب يدوياً. وقد شرح لنا أن انقطاع التيار الكهربائي كان سبب المشكلة. وحتى نظام منع فشل الآلية الأساسية، الذي يعمل أيضاً إلكترونياً، أخفق هو أيضاً. ودام انقطاع التيار ساعتين.

تبادر إلى ذهني كل الأبواب في لندن وأماكن أخرى التي تفتح الآن وتغلق أوتوماتيكياً: أبواب القطارات، وأبواب السيارات، وأبواب المصاعد، وأبواب المتاجر. ذات يوم، كانت كل هذه الأبواب تفتح وتغلق باليد. وكان الأمر ذاته ينطبق على فتح الأقفال وقفلها. اليوم يعمل مفتاح الأمان الخاص بسيارتي على قفل وفتح أبواب سيارتي أوتوماتيكيا. بحثت في جوجل لمعرفة السبب: «تعمل مفاتيح الأمان الحديثة من خلال نظام تحديد الهوية بموجات الراديو، الذي يعمل من خلال باركود (شفرة شريطية)، وهو نظام ذكي يستخدم الحقول الكهرومغناطيسية لتحديد وتتبع بيانات مسجلة على بطاقة تحتوي على معلومات مخزنة. ثم تمر المعلومات عبر موجات الراديو».

ومن الواضح أن مفتاحي أصبح مصدراً للخطر: «فإذا تسنى اختراق البرنامج الذي يشغل المفتاح الرقمي أو نسخه إلكترونياً، فسوف يتمكن المجرم السيبراني الذي فعل ذلك من سرقة سيارتك! والآن اكتشف الباحثون أن «استنساخ المفاتيح» ليس ممكناً فحسب، بل إنه بات يشكل تهديداً خطيراً».

حتى الآن، كان انقطاع التيار الكهربائي محلياً ومؤقتاً. شهدت الهند واقعتين رئيسيتين، في نيودلهي في شهر يوليو 2012، وفي مومباي في أكتوبر الأول 2020. أثرت واقعة دلهي على 620 مليون شخص (نحو 8% من سكان العالم). وفي مومباي، توقفت جميع خدمات قطارات الضواحي، وحوصر الركاب في الداخل؛ وفشلت أنظمة التدفئة المركزية؛ وأظلمت إشارات المرور الضوئية؛ وتوقفت الخدمات المالية؛ واضطرت وحدات الرعاية المركزة إلى مواصلة العمل بالاستعانة بمولدات للإبقاء على المرضى يتنفسون؛ وكان لابد من إلغاء الامتحانات عبر الإنترنت. عزا وزير الطاقة في ولاية ماهاراشترا انقطاع التيار الكهربائي لمدة ساعتين إلى «عطل فني».

كان انقطاع التيار الكهربائي الدائم الذي يغلق العالم بأسره الموضوع المفضل للخيال العلمي. في القصة القصيرة التي كتبها إي. إم فورستر عام 1909 بعنوان «الآلة تتوقف» (The Machine Stops)، يعيش الناجون من كارثة بيئية (غير مفسرة) تحت الأرض، حيث تعمل وسائل النقل، والاتصالات، والإنتاج، والخدمات بالكهرباء، ولا توجد أي وسيلة للاتصال الشخصي، ويجري بث الموسيقى على نحو مستمر إلى حجيرات لا يتحرك منها السكان أبداً، وتنزل الأسرة بضغطة زر، وتُـطـرَدَ الفضلات البشرية إلى مخارج عملاقة تقع فوق سطح الأرض.

يقول البطل كونو في الرواية: «ألا ترون أيها المحاضرون جميعكم أننا نحن من يموت، وأن الشيء الوحيد الذي يعيش هنا حقاً هو الآلة. لقد خلقنا الآلة لتنفذ إرادتنا، لكننا عاجزون عن حملها على تنفيذ إرادتنا الآن. لقد سلبتنا الآلة الإحساس بالمكان وحاسة اللمس، وطمست كل علاقة إنسانية واختزلت الحب في فعل جسدي.. الآلة تتقدم ــ ولكن ليس لتحقيق أهدافنا...».

لكن بعد ذلك تبدأ الآلة تتعطل. فتحدث تشوهات في صوت الموسيقى؛ وتتعطل المحاضرات «الافتراضية» بسبب انقطاعات التيار الكهربائي؛ ويصبح الهواء فاسداً؛ ويبدأ ماء الاستحمام يكتسب رائحة كريهة؛ وتفشل أجهزة إنزال أسِـرة النوم.

ثم ذات يوم تتوقف الآلة عن العمل تماماً. فتنتهي الحضارة. وتملأ الحشود المذعورة الأنفاق المؤدية إلى السطح، لكن أعمدة التهوية المسدودة توقفت أيضاً عن العمل، فأصبحوا محاصرين تحت الأرض. وأخيراً يـحل ليل دائم.

منذ كتب فورستر قصته، جرى استكشاف هذه الفكرة مرات أخرى عديدة.

تظل الانهيارات المروعة على هذا النطاق مادة للخيال. فلا تزال أماكن عديدة غير متصلة بالإنترنت، ولم تصل إليها قَـط البنية الأساسية اللازمة لدعمها. لكن عدداً مثل هذه الأماكن يتضاءل بثبات وسرعة، وهو ما يرجع جزئياً إلى الجهود التي تبذلها وسائط التواصل الاجتماعي وعمالقة التكنولوجيا، التي تعمل أيضاً، من خلال زيادة عدد مستخدمي الإنترنت، على توسيع قاعدة عملائها وتوسيع نطاق احتكارها للمعلومات.

ويتمثل تهديد أبطأ في أن السكان، الذين اعتادوا على الحصول «أوتوماتيكيا» على الخدمات التي يعتمدون عليها، سيفقدون تدريجياً قدرتهم على الصمود أمام «الصدمات»، الطبيعية منها والمصطنعة. فبعد أن فقدوا ذاكرتهم حول الكيفية التي كانت تُـدار بها الأمور في الماضي، ولأنهم لا يعرفون إلا القليل أو لا يعرفون أي شيء عن كيفية عمل العمليات التي يعتمدون عليها، فسوف يصبحون عاجزين ومذعورين في مواجهة حتى الاضطرابات الطفيفة في الحياة «العادية». لقد جعلوا من الآلة إلهاً، أو كما يوضح الأكاديميون بعبارة أكثر رصانة، فإنهم يعيشون وفق «النموذج التكنولوجي العلمي» ويحكمهم «إطار الضرورات».

إن الآلة تَـعِـد بتحسين حياتنا، ولكن ماذا يحدث إذا لم تعد الأبواب تُـفـتَـح؟

* عضو مجلس اللوردات البريطاني، وأستاذ الاقتصاد السياسي الفخري في جامعة واريك.

Email