أمريكا والجمهورية البيئية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تعمل إدارة الرئيس جو بايدن جاهدة، لاستعادة دور أمريكا القيادي على الصعيد العالمي، في مجال التنمية المستدامة. ولكن النجاح سيعتمد على ما إذا كان بإمكان بايدن إرساء الأساس السياسي لعلاقة جديدة بين المجتمع والبيئة.

ويطالب النشطاء وصناع السياسات، على حد سواء، بمزيد من الاستثمار في التكنولوجيا، لتقليص أثر الأنشطة الاقتصادية في البيئة، والحد من استخراج الموارد المحدودة ومن التلوث. وهناك قائمة طويلة من «الحلول» المطروحة، بما في ذلك البحث عن مصادر الطاقة الجديدة، واحتجاز الكربون وعزله، بالإضافة إلى أقدم التقنيات على الإطلاق، ألا وهي الأشجار. ولكن التحدي الأكبر لا يكمن في التكنولوجيا، بل في المؤسسات السياسية.

وبغض النظر عن عيوب أمريكا، لا تزال هذه الأخيرة أكثر النماذج نجاحاً في التاريخ، في ما يتعلق بالحكم الذاتي. ولكن بصفتها جمهورية نموذجية، فهي تواجه تحدياً يتمثل في استيعاب التصورات المختلفة لمستقبل مواطنيها والتوفيق بينها. ولن يكون من السهل إيجاد أرضية مشتركة بين قطبي اليوتوبيا التكنولوجية التقدمية والرومانسية الريفية الرجعية. إن الحل هو إنتاج توليفة يمكنها الحفاظ على عقد مدني قوي بما يكفي، لتمكين ثورة صناعية أخرى، والتغيرات البيئية من الاستمرار على نطاق يتجاوز أي شيء شهدته الحضارات البشرية، منذ أن أصبحت مستقرة قبل 10000 عام.

وتقدم علاقتنا بالمياه، دليلاً مفيداً بشأن هذا البحث عن مستوطنة جديدة. فمنذ التحول من مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار، إلى المستوطنات الزراعية- عندما كان الناس يقفون مكتوفي الأيدي أمام عالم تتحرك فيه المياه- أصبحت علاقة المؤسسات البشرية مع البيئة جدلية. فرغم أن الطبيعة جلبت الفيضانات والعواصف والجفاف، ابتكرنا طرقاً للتغلب على تلك الظروف، واستخراج الفوائض من الطبيعية الجافة، وتسخير الأنهار من أجل النقل والطاقة.

وانبثق المشروع الجمهوري الحديث، من هذه الجدلية القديمة بين الحضارة الإنسانية والطبيعة. وقد توسط فيه رجال القانون في العصور الوسطى، وأعاد تفسيره الإنسانيون المعاصرون، وعرقلته أجيال من الراديكاليين- بمن فيهم ثوار القرن الثامن عشر، ومناهضي الإمبريالية في القرن العشرين- الذين كانوا يطالبون بحق التصويت.

ولاحظ توماس باين، أن الشاغل الرئيس للجمهورية الأمريكية في المراحل الأولى من استقلالها، كان دائماً أراضيها الفريدة، ومناظرها الطبيعية. ولكونها تحتل المرتبة الأولى في قارة بكاملها، كان على الولايات المتحدة أن تتعلم إدارة مجموعة واسعة من الظروف الجغرافية، كل ذلك مع تحقيق التوازن بين الحرية الفردية والفاعلية الجماعية.

في عام 1784، على سبيل المثال، قام جورج واشنطن بتأسيس شركة «بوتوماك» لمتابعة الملاحة الداخلية خارج جبال الأبلاش، ومن ثم الحيلولة دون أن تعتمد تلك الأراضي بشدة على ميناء «نيو أورلينز»، الذي تسيطر عليه إسبانيا. ولكن هذه الاستجابة لمشكلة جغرافية، خلقت مشكلة سياسية. إذ كان الشحن على نهر «بوتوماك»، يوجه التجارة خارج حدود الولايات، وبالتالي، فقد كان يتطلب حرية الملاحة. ولكن المواد الكونفدرالية شديدة التحرر، لم تتضمن أي بند للتحكيم في النزاعات التجارية.

ولتسوية الأمر، عقد واشنطن اجتماعاً في منزله على ضفاف نهر بوتوماك، واختُتم باتفاق «ماونت فيرنون». وبعد ذلك، نظم (جيمس ماديسون) مؤتمراً مشابهاً لجميع الولايات في أنابوليس، حيث خلص المندوبون إلى ضرورة عقد مؤتمر دستوري في فيلادلفيا. لقد تحولت مشكلة الملاحة إلى مشكلة حكم، وفي النهاية، تحولت إلى تسوية دستورية.

ومع مرور الوقت، ومن خلال المراجعة القضائية، أصبحت الملاحة الداخلية مسألة فيدرالية بالكامل، خاصة أن الدولة الفتية بدأت تتصارع مع ميزاتها المادية، للحفاظ على تنميتها الاقتصادية. ففي أوائل القرن التاسع عشر، ظهر عدد لا يحصى من شركات القنوات على طول الساحل الشرقي. ولم يكن لدى معظمها رأس المال للحفاظ على مئات الأقفال اللازمة للتغلب على التدرجات الحادة. ولكن لأنها ربطت البلد بعضه ببعض، فقد كان لها أهمية كبيرة جداً، لذا، مُولت بسندات الدولة لإنقاذها من الخسارة.

وبحلول ثلاثينيات القرن التاسع عشر، شكلت أعمال القناة والأنهار هذه، أكثر من نصف ديون الولايات. وعندما حل الذعر في عام 1837، أفلست العديد من هذه الشركات، وجرّت معها سندات الدولة (مقدمة إلى «حلقات الهلاك» التي شهدتها الأزمات المالية الأخيرة).

وبعد هذه التجارب، نما دور الحكومة الفيدرالية الأمريكية، في تنظيم البنية التحتية الكبيرة للمياه، وتمويلها وتطويرها إلى حد كبير، خاصة خلال القرن العشرين. وفي العصر التقدمي، ثم في ظل صفقة الرئيس «فرانكلين دي روزفلت»، تطورت جمهورية حديثة، تتميز فيها الدولة بدور واسع النطاق. وأصبحت الأنهار مخططات لبرامج الكهربة والتنمية الاقتصادية على نطاق أوسع، ما قدم منظوراً مناقضاً للتصنيع المُدار مركزياً في الاتحاد السوفييتي.

إن المخاطر كبيرة جداً. والتحدي الأكبر الذي تواجهه أمريكا- وفرصتها- هو الدخول في أول جمهورية بيئية.

* باحث مشارك فخري في كلية سميث للمشاريع والبيئة بجامعة أكسفورد، وهو مؤلف كتاب «الماء: سيرة ذاتية».

Email