العودة للمسار الإنساني قبل الوصول إلى الهاوية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تسببت الجائحة في تعطيل الآلة الاقتصادية العالمية، الأمر الذي أدى إلى تقلص النمو في العديد من أجزاء العالم. والآن توجه الحكومات والشركات كل طاقاتها نحو استعادة الوضع المعتاد القديم ومعدل النمو السابق لاندلاع الجائحة. ومع ذلك، يجب أن يكون شعارنا السياسي عكس ذلك في حقيقة الأمر: «لا عودة إلى الوراء».

في عالَـم ما قبل الجائحة، كنا نندفع نحو نهاية الوجود البشري على هذا الكوكب، بسبب تغير المناخ، وتركز الثروة في أيدي قلة متضائلة من الناس، وتطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي ستجعل المزيد والمزيد من الأيدي المتبقية زائدة عن الحاجة.

دأب العلماء لفترة طويلة على تحذيرنا من أن الانحباس الحراري الكوكبي الجامح من شأنه أن يحد بشدة من وقتنا على هذا الكوكب. وقد بدأ العد التنازلي بالفعل. الواقع أن البشرية جعلت من نفسها نوعاً مهدداً بالانقراض. وعلى هذا، فمن قبيل الانتحار أن نعود إلى عالم ما قبل الجائحة. لماذا ينبغي لنا أن نعود إلى مسار يقودنا إلى الهاوية؟

الآن بعد أن توقف قسم كبير من الاقتصاد، لن نجد وقتاً أفضل لإعادة توجيهه في اتجاه مختلف. خلقت الجائحة فرصة لرسم مسار جديد لعالم تحدد هيئته ثلاثة أصفار: صافي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون صِـفر، ومعدل الفقر صِـفر، ومعدل البطالة صِـفر.

إن إعادة تصميم النظام هي الخيار الوحيد المتاح لنا الآن. نحن نطيل أمد حفل في منزل يحترق، ونحتفل بنمونا الاقتصادي ومعجزاتنا التكنولوجية، ونرقص على أغاني الازدهار. وتبقينا هذه الأغاني راضين عن حقيقة مفادها أن حفلنا هو الذي بدأ الحريق.

يدرك الشباب حول العالم هذه الحقائق ويحاولون إيقاف الحفل وإطفاء ألسنة اللهب. فكان المراهقون ينظمون المسيرات ويطالبون بالتغيير. ويتهم بعضهم آباءهم صراحة بسرقة مستقبلهم. وقد أظهرت الحكومات على الأقل وعيها من خلال الإعلان عن أهداف صافي الصِـفر، تماما كما وافقت الشركات على أهداف التنمية المستدامة.

لكن أي قدر من هذا حقيقي، وأي قدر منه مجرد علاقات عامة؟ يستوجب الالتزام الحقيقي تغييراً حقيقياً في فِـكرنا الاقتصادي، ووضع حد لملاحقة هدف نمو الناتج المحلي الإجمالي كغاية في حد ذاته. هذا الـفِـكر الجديد من شأنه أن يرغمنا على الاعتراف بمدى خطورة العالَـم الذي خلقناه، ويجبرنا على معالجة التراكم المضطرد للثروة عند القمة، والذي يأتي على حساب كثيرين عند القاع.

كما هي الحال الآن، تواصل الحكومات اتباع مسارها المعتاد الآمن سياسياً. فهي تعلن عن أهداف بيئية، لكنها لا تتصرف بما يوحي بأي شعور واضح بإلحاح هذه المسألة. ولا تُـظهِـر أي دولة أي قلق حقيقي إزاء تركز الثروة أو انتشار الذكاء الاصطناعي. وعلى هذا فقد وقع على عاتق الناس العاديين، وخاصة الشباب، الحشد والتعبئة ضد وضع راهن متصدع.

في نهاية المطاف، تضرب هذه الأحكام القيمية بجذورها في أذهاننا ــ حيث يجد المرء السعادة ويتعرف على مصدرها الحقيقي. فأنا، على سبيل المثال، أستطيع أن أجد العديد من الاستخدامات لأموالي. أستطيع أن أتبرع بها، أو أحتفظ بها تحت الفراش، أو أشتري بها تذاكر اليانصيب، أو أستثمرها في أعمال اجتماعية، أو في أعمال تجارية تحقق القدر الأقصى من الربح. ولكن ليس من الواضح كيف ينبغي لي أن أنتقي بين هذه الخيارات، لأن تعظيم السعادة ليس كمثل تعظيم الربح.

مع ذلك، في العديد من البلدان لا توجد ترتيبات تمويل لمساعدة أي شاب راغب في بدء مشروع خاص. التمويل هو وقود ريادة الأعمال، ولكن ما دام المرابون هم فقط من يوفرون التمويل، فلن تتمكن الأعمال الاجتماعية من الانطلاق أبداً. يحتاج أصحاب المشاريع المتناهية الـصِـغَـر إلى بنوك متخصصة يمكنها تلبية احتياجاتهم المحددة، بما في ذلك في الأماكن النائية والمعزولة.

لنتأمل هنا حالة شخص يبدأ بيع القمصان في الشارع. ربما يتمكن من بيع خمسة قمصان في اليوم، على الرغم من أنه قادر على بيع خمسين قميصاً. مع افتقاره إلى المال اللازم لتوسيع تجارته، فإنه يستسلم ويعمل في أي وظيفة (ربما في الاقتصاد غير الرسمي، حيث لا يتمتع بأي مزايا أو حماية قانونية). ولو كان المال متاحاً، فإن كان ليجد اختيارات أخرى كثيرة. يمكنه أن يتخلى عن الوظيفة بأجر ويركز على بناء أعماله الخاصة؛ أو يمكنه العمل في وظيفة بينما يستمر في بيع القمصان إلى جانب الوظيفة.

لماذا نحتاج إلى التكنولوجيا؟

تلعب التكنولوجيا دوراً رئيسياً في كل هذا. وقد تكون نعمة أو نقمة، اعتماداً على الاتجاه الذي نريد أن نأخذها إليه. من السهل أن نتخيل كيف من الممكن أن تجلب تطبيقات الذكاء الاصطناعي للناس فوائد لا حصر لها، ولكن ليس عندما يكون المقصود من تصميمها ونشرها أن تحل محل العمال البشريين على نطاق هائل.

عندما نبتكر تكنولوجيا جديدة، نصبح ملزمين بالنظر في مكان استخدامها وكيف ينبغي لنا استخدامها أو عدم استخدامها. التكنولوجيا ليست قوة مستقلة قائمة بذاتها، بل هي خلق بشري يعكس قيمنا ونوايانا. فقد اخـتُـرِعَ الطب لعلاج الناس، لكن من الواضح أن المعارف والتكنولوجيات الطبية يمكن استخدامها أيضا لقتل الناس. ولا تختلف عن ذلك تكنولوجيا ذات أغراض عامة مثل الذكاء الاصطناعي.

أعتقد أن تطوير الذكاء الاصطناعي يسير حاليا في الاتجاه غير الصحيح، لأنه يستخدم لتعظيم الأرباح من خلال تقليص تكاليف العمالة في الشركات المدفوعة بالربح. ويتعين علينا أن نوقف هذا الاتجاه قبل فوات الأوان. على النقيض من تكنولوجيات أخرى، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يعيد إنتاج ذاته نظرياً، وعند هذه النقطة يصبح غير محدود.

لقد منحتنا الجائحة الفرصة لبدء العمل نحو عالَـم جديد حيث صافي الانبعاثات الغازية الضارة صِـفر، عالم خال من الفقر والبطالة. لتحقيق هذه الغاية، يتعين علينا أن نستغني عن الوقود الأحفوري وأن نعمل على نشر مصادر الطاقة المتجددة على نطاق عالمي. يتعين علينا أن نكف عن تناول لحوم الأبقار وضخ المنتجات البلاستيكية التي تستخدم مرة واحدة. وسيكون لزاماً علينا أن نبذل قدراً أكبر كثيرًا من الجهد للحفاظ على الغابات والنظم البيئية المهمة الأخرى وتجديدها.

يتعين علينا أيضا أن نعيد تصميم العمل المصرفي بحيث تصبح الخدمات المالية في متناول حتى المشردين. ويجب أن نتوقف عن السماح للثروة بالتركز في أيدي قِـلة متضائلة من الناس. يتعين علينا أن نفكر بجدية في التهديدات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي. كما يتعين علينا أن نحمل الأعمال الاجتماعية إلى التيار السائد.

لقد أصبح البشر من الأنواع المهددة بالانقراض. وإذا واصلنا على ذات المسار، فسوف تنتهي بنا الحال إلى الانقراض ــ وربما قريباً جداً، اعتماداً على الاختيارات التي نتخذها الآن.

* حائز على جائزة نوبل للسلام، ومؤسس بنك الفقراء (جرامين).

Email