إعادة النظر في بجعات 2020 البيضاء

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في شهر فبراير، حَذَّرتُ من أن أي عدد من الأزمات المتوقعة ــ «البجعات البيضاء» ــ قد يشعل شرارة اضطرابات عالمية هائلة هذا العام.

وقد لاحظت أن الصين واقعة في قبضة فيروسية قد تتحول إلى جائحة عالمية؛ وأن الحرب السيبرانية مستمرة؛ وأن كبار حاملي سندات الخزانة الأمريكية يلاحقون استراتيجية التنويع؛ وأن الانتخابات التمهيدية الرئاسية الديمقراطية تكشف عن انقسامات في معسكر معارضة ترامب، وقد بدأت بالفعل تلقي بظلال من الشك على عمليات فرز الأصوات؛ وأن الخصومات بين الولايات المتحدة وأربع قوى تحريفية تتصاعد؛ وأن تكاليف تغير المناخ وغير ذلك من الاتجاهات البيئية في العالم الحقيقي تتزايد.

منذ فبراير، تحولت فاشية مرض فيروس كورونا (كوفيد 19) إلى جائحة حقاً، ما أثبت صحة تحذيراتنا في وقت مبكر من أن فيروس كورونا سيخلف عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي. بفضل سياسات التحفيز الضخمة، لم يتحول الركود الأعظم في عام 2020 إلى كساد أعظم.

لكن الاقتصاد العالمي يظل هشاً، وحتى إذا حدث التعافي السريع (على هيئة حرف V) بعد كساد الإنتاج والطلب الشديد، فقد يدوم التعافي لمدة ربع واحد أو اثنين، نظراً لانخفاض مستوى النشاط الاقتصادي.

بدلاً من ذلك، وفي ظل هذا القدر العظيم من الشكوك، ربما يُفضي العزوف عن المخاطرة وتقليص المديونيات من جانب الشركات والأسر، وحتى بلدان بالكامل، إلى تعافٍ أكثر ضعفاً ووهناً (على هيئة حرف U)، بمرور الوقت.

ولكن إذا لم تتم السيطرة على الطفرة الأخيرة في حالات «كوفيد 19» في الولايات المتحدة ودول أخرى، وإذا اندلعت موجة أخرى في خريف وشتاء هذا العام قبل اكتشاف لقاح آمن وفعّال، فمن المرجح أن يشهد الاقتصاد ركوداً مزدوجاً (على هيئة حرف W). وفي ظل هشاشة الاقتصاد العالمي العميقة إلى هذا الحد، لا نستطيع أن نستبعد كساداً أعظم (على هيئة حرف L) بحلول منتصف هذا العقد.

علاوةً على ذلك، كما توقعت في فبراير، تسارعت المنافسة بين الولايات المتحدة وأربع قوى تحريفية ــ الصين، وروسيا، وإيران، وكوريا الشمالية ــ في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر. أدت أزمة «كوفيد 19» إلى تفاقم الحرب الباردة الصينية الأمريكية بشدة في ما يتصل بالتجارة، والتكنولوجيا، والبيانات، والاستثمار، ومسائل تتعلق بالعملة.

وتشهد التوترات الجيوسياسية تصاعداً خطيراً في هونغ كونغ، وتايوان، وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. وحتى إذا لم تكن الصين ولا الولايات المتحدة راغبة في الدخول في مواجهة عسكرية، فإن تصاعد سياسات حافة الهاوية قد يؤدي إلى وقوع حادث عسكري يخرج عن السيطرة.

وهناك مخاوف، كما تحدثت، من أن إدارة ترامب قد تستخدم العقوبات لوضع يدها على حيازات الصين وروسيا وغيرهما من المنافسين من سندات الخزانة الأمريكية وتجميدها، ما أدى إلى بيع سندات الخزانة بكثافة مع تحول هذه الدول إلى أصول جيوسياسية أكثر أماناً مثل الذهب.

وقد تسبب هذا الخوف، إلى جانب خطر يتمثل في زيادة التضخم بسبب العجز المالي الضخم المحول إلى نقد، في ارتفاع أسعار الذهب منذ ذلك الحين، حيث ارتفع بنسبة %23 هذا العام، وبأكثر من %50 منذ أواخر عام 2018.

الواقع أن الولايات المتحدة تستخدم الدولار كسلاح حقاً، لكن الدولار أصبح ضعيفاً مؤخراً مع سعي منافسي وحلفاء الولايات المتحدة على حد سواء إلى التنويع بعيداً عن الأصول المقومة بالدولار.

وتتزايد المخاوف البيئية أيضاً. ففي شرق أفريقيا، تسبب التصحر في خلق الظروف المثالية لظهور أسراب جراد هائلة الضخامة تدمر المحاصيل وسبل العيش. تشير أبحاث حديثة إلى أن فشل المحاصيل بسبب ارتفاع درجات الحرارة والتصحر سيدفع مئات الملايين من الناس إلى الفرار من المناطق الاستوائية الحارة نحو الولايات المتحدة، وأوروبا، وغير ذلك من المناطق المعتدلة، في العقود القادمة.

كما حذرت دراسات أخرى من نقاط التحول المناخية، مثل انهيار صفائح جليدية رئيسية في القطب الجنوبي أو غرينلاند، والذي قد يؤدي إلى ارتفاع مفاجئ في مستوى سطح البحر.

كما أصبحت علاقات الارتباط بين تغير المناخ والأوبئة أكثر وضوحاً. ومع تعدي البشر بشكل متزايد على موائل الحياة البرية، أصبحوا على اتصال أكثر تكراراً مع الخفافيش وغيرها من ناقلات الأمراض الحيوانية. وقد تزايدت المخاوف من عودة فيروسات قاتلة مجمدة منذ زمن بعيد إلى الظهور وانتشارها بسرعة إلى مختلف أنحاء العالم، مثل كوفيد 19، مع ذوبان الجليد الدائم التجمد في سيبيريا.

ولكن لماذا تتجاهل الأسواق المالية بسرور هذه المخاطر؟ بعد هبوطها بنحو %30 إلى %40 في بداية الجائحة، استردت العديد من أسواق الأسهم معظم خسائرها، بسبب استجابة السياسة المالية الضخمة والآمال في الحصول قريباً على لقاح لـ«كوفيد 19». ويشير التعافي السريع في الأسواق إلى أن المستثمرين يتوقعون تعافي الاقتصاد السريع على هيئة حرف V.

تكمن المشكلة في أن ما كان صحيحاً في فبراير لا يزال صحيحاً اليوم: فلا يزال من الممكن أن يخرج الاقتصاد عن مساره بسرعة بسبب مخاطر نادرة أخرى، سواء كنت اقتصادية، أو مالية، أو جيوسياسية، أو تتعلق بالصحة العامة، وكثير منها ظل قائماً لفترة طويلة، وفي بعض الحالات ازدادت حدته خلال الأزمة الحالية.

الحق أن الأسواق ليست بارعة للغاية في تسعير المخاطر السياسية والجيوسياسية النادرة الحدوث ــ ناهيك عن المخاطر البيئية ــ لأن احتمالاتها يصعب تقييمها. ولكن نظراً للتطورات التي حدثت في الأشهر القليلة الأخيرة، لن يكون من المفاجئ أن تتسبب واحدة أو أكثر من المخاطر المعتادة المتوقعة (البجعات البيضاء) في زعزعة أركان الاقتصاد العالمي مرة أخرى قبل نهاية العام.

 

 

Email