الاستثمار المؤثر وتحدي جائحة «كورونا»

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

من الواضح أن جائحة مرض فيروس «كورونا» 2019 (كوفيد 19)، ستخلف آثاراً خطيرة وبعيدة المدى في المستقبل، وخاصة إذا تسببت في تخريب التحسينات الأخيرة التي طرأت على الأنظمة الصحية الضعيفة تاريخياً في العديد من البلدان. لتجنب هذه النتيجة، نحتاج بشكل عاجل إلى تجاوز الهدف الذي يتلخص في مجرد «حماية المحتاجين» في أوقات الأزمات.

والتبرعات العَـرَضية ليست كافية. فالآن حان الوقت المناسب للبدء في إزالة الحواجز البنيوية والتنظيمية التي حالت لفترة طويلة دون تحقيق تحسينات مستدامة في الصحة العالمية.

في أعقاب حالات الطوارئ العالمية، يميل المجتمع الدولي إلى الارتداد إلى «العمل كالمعتاد»، بدلاً من الاستعداد لكوارث المستقبل. ومع تركيز صناع السياسات على مكافحة الحرائق وحسب، بدلاً من معالجة أسبابها الأساسية، يبدو الأمر وكأن الوقت المناسب لتدابير الوقاية والتخفيف لا يحين أبداً.

ومع ذلك، أظهرت الجائحة أن استجابة الصحة العامة التي تتسم بالكفاءة والفعالية تتطلب أكثر من مجرد نظام رعاية صحية يعمل بشكل جيد. فهي تدعو أيضاً إلى «أنظمة صحية» أكثر قوة، والتي تضم كل القطاعات التي تؤثر على الصحة العامة، بما في ذلك التصنيع، والأغذية، والنقل، والتنمية الحضرية. و

في حين أن أغلب العاملين في هذه القطاعات لا يمكن اعتبارهم بسهولة «مهنيين صحيين»، فإنهم يلعبون رغم هذا دوراً محورياً في تحقيق نتائج صحية طيبة.

لقد تسبب نقص التمويل الجسيم لأنظمة الرعاية الصحية في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء في خلق أوجه قصور حرجة تكشف عنها الجائحة النقاب الآن. الواقع أن الافتقار إلى التأمين الصحي بين الملايين من الأمريكيين الأكثر ضعفاً فَـرَض تهديداً للصحة العامة قبل فترة طويلة من اندلاع أزمة «كوفيد 19».

على نحو مماثل، ضـمن نقص الاستثمار في أنظمة الرعاية الصحية في مختلف بلدان جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا، وفي جنوب آسيا، ومناطق أخرى من العالم، تَـعَـرُض الملايين من الناس للخطر في حال اندلعت أزمة.

وقد أبرزت الجائحة الحالية ضرورة مسارعة كل المجتمعات إلى توفير القدرة للجميع على الوصول إلى الرعاية الصحية العالية الجودة دون أن يخاطر المرضى بالتعرض للخراب المالي. وهي تُـثبِت أننا لم نعد نملك ترف التغافل عن الحواجز الطبقية التي ظلت قائمة لفترة طويلة والتي تسمح للأثرياء فقط بالحصول على أفضل رعاية صحية عند الطلب.

تزودنا الجائحة أيضاً بالفرصة لإعادة النظر في الكيفية التي نلاحق بها الإبداع والإصلاح في ظل أنظمة فاشلة. وهذا يستلزم أن يعمل النظام الاقتصادي العالمي على توسيع التعريفات الضيقة للإبداع والابتكار بحيث تحتضن المعرفة (غير المرئية غالباً) المتولدة من مختلف أنحاء الجنوب العالمي، فتتعلم من تنفيذ الاستراتيجيات التي جرى تنفيذها في سنغافورة، وكوريا الجنوبية، والصين، وجنوب أفريقيا، لاحتواء الفيروس وتعبئة استراتيجيات الاختبار وتتبع المخالطين على نطاق السكان بالكامل.

ومن خلال دمج الخبرات من الدول التي تعاملت مع فاشيات مميتة سابقة، مثل إيبولا، وسارس (مرض الالتهاب الرئوي الحاد)، ومتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، وحمى لاسا، يصبح بوسعنا تطوير استراتيجيات أكثر إبداعاً على مستوى العالم. الواقع أن مثل هذه الاستراتيجيات، لو كانت قائمة قبل انتشار «كوفيد 19» على مستوى العالم، فإنها كانت لتساعد في تنظيم استجابة عالمية فعّالة للجائحة، وهي الاستجابة التي يبدو التوصل إليها الآن أمراً بعيد المنال. مع امتداد الجائحة لتشمل بلدان.

حيث تشكل الممارسات التقليدية صميم فكرة العافية، أصبح من الضروري للغاية دمج أنظمة المعرفة المتنوعة هذه في استراتيجيات التثقيف الصحي للوقاية من الأمراض وعلاجها.

علاوة على ذلك، نظراً للتراجع الشديد في النشاط التجاري والاقتصادي، هناك سبب وجيه يجعلنا نتوقع أن العديد من وظائف البيع بالتجزئة قد تفقد بشكل دائم، وأن عدد الوظائف في مجال التسليم سوف يزداد. وسوف تتسبب الارتباكات الاقتصادية الواسعة التي تحدث الآن بالفعل في دفع عشرات الملايين من الناس إلى حالة من اليأس الشديد، مما يزيد من تعقيد الجهود الرامية إلى السيطرة على انتشار الفيروس.

هنا، تسنح فرصة فريدة لمجتمع الاستثمار المؤثر ويتجلى الدور الحاسم الذي يستطيع أن يضطلع به.

من غير المرجح أن ينشر المستثمرون التقليديون التمويل في المناطق الأشد احتياجاً إليه، لأن تركيزهم الأساسي ينصب على زيادة العوائد المعدلة تبعاً للمخاطر. لكن الاستثمار المؤثر قادر على ذلك، من خلال حشد الأموال اللازمة لجلب المزيد من المبدعين المتنوعين إلى قطاع الصحة والقطاعات المرتبطة بالصحة.

في عموم الأمر، ينبغي للجائحة أن تعمل على تحفيز أولئك من خارج مجتمع الاستثمار المؤثر وحملهم على إعادة النظر في كيفية تعبئة رأس المال المالي ونشره.

بالإضافة إلى معالجة الطوارئ الصحية الحالية، يستلزم التغلب على جائحة «كوفيد 19» أيضاً أن نركز على الحلول الطويلة الأمد. وبدلاً من الشعور بالارتياح لفكرة أنها «تحمي أفريقيا» أو «تحمي الفقراء»، يتعين على مؤسسات تمويل التنمية، والمستثمرين المؤثرين، وهيئات التمويل الثنائية، أن تركز على رفع سقف طموحاتها. ولعل الصحة العالمية تشكل نقطة انطلاق جيدة.

* كبيرة الباحثين المشاركين بمجال الأبحاث السريرية في الصحة العامة وعلم الأوبئة في جامعة كمبريدج، وقائدة عالمية شابة في المنتدى الاقتصادي العالمي.

* عضو إداري في Resilience Capital Ventures LLC، وهي منتسبة إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

* زميل زائر في مركز LSE Cities البحثي التابع لكلية لندن للاقتصاد، وزميل المركز الأفريقي للمدن.

 

Email