الاقتصاد ووجهه المتغير

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

في الاستجابة للضغوط من الداخل والخارج، تتغير مهنة الاقتصاد تدريجياً نحو الأفضل. وليس من المستغرب أن تُـفضي ردة الفعل الشعبوية العكسية التي تجتاح الديمقراطيات المتقدمة في السنوات الأخيرة، إلى بعض التأمل في الذات في هذا الفرع من المعرفة.

ذلك أن الأسباب التي أحدثت ردة الفعل هذه ــ التقشف، واتفاقيات التجارة الحرة، والتحرير المالي، وإلغاء ضوابط سوق العمل التنظيمية ــ كانت تستند إلى أفكار أهل الاقتصاد.

لكن التحول يمتد إلى ما هو أبعد من معتقدات السياسة الاقتصادية. ففي هذا المجال، بدأنا نشهد أخيراً التعامل مع الممارسات الهرمية، وثقافة الندوات العدوانية التي أنتجت بيئة غير مضيافة للنساء والأقليات.

كشفت دراسة استقصائية أجرتها في عام 2019، الجمعية الاقتصادية الأميركية، أن ما يقرب من نصف خبيرات الاقتصاد الإناث، شعرن بالتمييز ضدهن، أو عوملن بإجحاف بسبب نوعهن الجنسي. وما يقرب من ثلث خبراء الاقتصاد من غير ذوي البشرة البيضاء، وجدوا معاملة ظالمة على أساس هويتهم العنصرية أو العِرقية.

وربما تكون هذه الاختلالات مترابطة. إن المهنة التي تتسم بقدر أقل من التنوع والانفتاح على الهويات المختلفة، من المرجح أن تُـظهِر سمات مثل التفكير الجمعي والغطرسة. وإذا كان لهذه المهنة أن تعمل على توليد أفكار تصلح لمساعدة المجتمع في تحقيق الرخاء الشامل، فسوف يكون لزاماً عليها أن تصبح هي ذاتها أكثر شمولية.

وكان الوجه الجديد للاقتصاد معروضاً عندما انعقدت الجمعية الاقتصادية الأميركية لاجتماعها السنوي في سان دييغو، في أوائل يناير/‏كانون الثاني. وقد شهد ذلك الحدث العديد من اللجان من النمط المعتاد حول موضوعات مثل السياسة النقدية، والتنظيم، والنمو الاقتصادي. لكن الأمر لم يخلُ من نكهة مختلفة، لا يمكن إنكارها هذا العام.

فقد كانت الجلسات التي خلفت بصمتها على الإجراءات، واجتذبت القدر الأعظم من الاهتمام، تلك التي دفعت المهنة في اتجاهات جديدة. فكان هناك أكثر من عشر جلسات ركزت على النوع الجنسي والتنوع، بما في ذلك محاضرة ريتشارد تي. إيلي الرئيسة، التي ألقتها ماريان برتراند من جامعة شيكاغو.

انعقدت اجتماعات الجمعية الاقتصادية الأميركية على خلفية نشر كتاب آن كيس وأنجوس ديتون الرائع والمؤثر، بعنوان «الموت يأساً»، الذي قُـدِّم أثناء جلسة خاصة. يُ

ـظهِر بحث كيس وديتون كيف عملت مجموعة من الأفكار الاقتصادية التي ميزت «السوق الحرة»، إلى جانب الهوس بالمؤشرات المادية، مثل الإنتاجية الكلية والناتج المحلي الإجمالي، على تغذية وباء الانتحار، وتعاطي جرعات زائدة من المخدرات، والإدمان على الكحول بين المنتمين إلى الطبقة العاملة في أميركا. ولم تعد الرأسمالية تفي بوعودها، وكان الاقتصاد في أقل تقدير متواطئاً في كل هذا.

وتولت إحدى اللجان، تحت مسمى «الاقتصاد من أجل الرخاء الشامل»، والتي قامت بتنظيمها شبكة تحمل ذات الاسم، والتي شاركت في إدارتها، مناقشة العديد من مسارات الفِكر الجديد، التي استولت على هذا الفرع من المعرفة.

ويتمثل أحد المسارات، في الحاجة إلى توسيع تركيز الاقتصاديين من مستويات الازدهار «المتوسطة»، إلى الجوانب التوزيعية، والأبعاد غير الاقتصادية التي لا تقل أهمية عن الرفاهة، مثل الكرامة والاستقلال والصحة والحقوق السياسية.

فالطريقة التي يتحدث بها أهل الاقتصاد عن الاتفاقيات التجارية، أو إلغاء الضوابط التنظيمية على سبيل المثال، ربما تتغير عندما يتعاملون مع هذه الاعتبارات الإضافية بجدية. وسوف يتطلب هذا مؤشرات اقتصادية جديدة. ويتمثل أحد الاقتراحات، والذي يقطع شوطاً طويلاً من الطريق، في قيام الهيئات الحكومية بإنتاج حسابات دخل وطني توزيعية.

وكما زعم صمويل بولز وويندي كارلين في ورقة بحثية قُـدِّمَت في ذات الجلسة، فإن كل نموذج سياساتي يتضمن مجموعة من القيم الأخلاقية ــ حول متطلبات الحياة الجيدة ــ إلى جانب نظرة حول الكيفية التي يعمل بها الاقتصاد.

فتفترض النيوليبرالية، وجود أفراد مستقلين وسوق حرة توفر الكفاءة، بفضل العقود الكاملة، وندرة إخفاقات السوق نسبياً. وما نحتاج إليه، وفقاً لمزاعم بولز وكارلين، هو نموذج جديد يدمج معايير المساواة والديمقراطية والاستدامة، مع نموذج للاقتصاد، كما يعمل اليوم حقاً.

يضع هذا النموذج المجتمع إلى جانب الانفصام بين الدولة والسوق، ويتضمن سياسات مثل فرض الضرائب على الثروة، وزيادة القدرة على الوصول إلى التأمين للحد من التعرض للمخاطر، وحقوق وصوت محل العمل، وإصلاح حوكمة الشركات، وإضعاف «حقوق الملكية» الفكرية بشكل كبير.

في حديثه في الجلسة ذاتها، انتقد لويجي زينجاليس، الاقتصاديين، لأنهم أقحموا تفضيلاتهم على الجسد السياسي. ويحدث هذا لأن الاقتصاديين يميلون إلى إعطاء قيمة أكبر لنتائج بعينها (مثل الكفاءة)، أكثر من غيرها (مثل توزيع الدخل)، ولأنهم يقعون فريسة للتفكير الجمعي، ويعبدون نماذج اقتصادية بعينها، ويتجاهلون كل ما عداها من نماذج.

ويتلخص جزء من الحل في تقدير التنوع، وإظهار قدر أكبر من التواضع. ويتمثل جزء آخر، حسب زينجاليس، في إيلاء مزيد من الاهتمام للبحث في علوم اجتماعية أخرى، بما في ذلك التاريخ، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية.

تتلخص التبعات المترتبة على كل هذه المنظورات، في أن الاقتصاد يجب أن يكون منفتحاً على البدائل المؤسسية والتجريب المؤسسي. ويشكل تشجيع مثل هذا التفكير، أحد الأهداف الرئيسة التي حددتها شبكة الاقتصاد من أجل الرخاء الشامل.

الواقع أن القوام المؤسسي الذي يستند إليه اقتصاد السوق، غير محدد إلى حد كبير. فبوسعنا أن نتمسك بالترتيبات المؤسسية التي تدعم الامتيازات الخاصة وتقيد الفرصة. أو يمكننا أن نعكف على ابتكار مؤسسات تتسق، على حد تعبير بولز وكارلين، مع السعي، ليس فقط إلى تحقيق الثراء المشترك، بل وأيضاً نحو مفهوم موسع للحرية.

وسوف تساعدنا الأساليب التجريبية ــ وخاصة الاستدلال السببي ــ والتي أصبحت أكثر أهمية للمهنة في العقود الأخيرة. وهذا أمر جيد، بقدر ما تعمل الأدلة الواقعية، بكل ما تنطوي عليه من فوضى ضرورية، على إزاحة الإيديولوجية.

لكن التركيز على الأدلة يشتمل أيضاً على خطر إنشاء نقاط عمياء. ولا يمكن الحصول على الأدلة حول ما قد يكون ناجحاً أو فاشلاً، إلا من خلال التجربة الفعلية. ونحن نفتقر بالضرورة إلى الترتيبات المؤسسية البديلة البعيدة عن واقعنا الحالي.

يتمثل التحدي الذي يواجه أهل الاقتصاد، في قدرتهم على التزام الصدق والإخلاص في تجريبهم، دون مزاحمة الخيال اللازم لتصور المؤسسات الشاملة المعززة للحرية في المستقبل.

 

 

Email