البنوك المركزية والحاجة لشبكة أمان مالية عالمية

صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

كانت أسعار الفائدة المنخفضة - الاسمية والحقيقية منها - سمة ثابتة للاقتصادات المتقدمة منذ ثمانينيات القرن الماضي. ويتساءل الكثيرون الآن، إلى متى قد تستمر هذه السياسة؟

في عام 2015، قال «تقرير جنيف» بشأن موضوع المركز الدولي للدراسات النقدية والمصرفية، ومركز أبحاث السياسة الاقتصادية، أن أسعار الفائدة ستبقى منخفضة لفترة طويلة، ولكن من المحتمل أنها لن تبقى كذلك لأجل غير مسمى.

ولكن مع وجود أكثر من 13 تريليون دولار من السندات ذات العوائد السلبية غير المسددة في الاقتصاد العالمي، بدأ الكثير من العلماء والمستثمرين يعتقدون أن أسعار الفائدة، قد تظل منخفضة إلى الأبد. إذا كان الأمر كذلك، فسيواجه محافظو البنوك المركزية محنة كبيرة: وفي حالة تباطؤ النمو، هل ينبغي عليهم التصرف بحذر، أو التصرف بشكل وقائي؟

ويكمن الجواب خارج السياسة النقدية، وخارج الحدود الوطنية. ومن أجل معرفة السبب، من المفيد إعادة النظر في المفهوم الأساسي للفوائد، والذي كان دائمًا مصدر جدل في النظرية الاقتصادية.

وكما أوضح الاقتصادي النمساوي، أوجين فون بوميرك، في كتابه «رأس المال والفائدة»، الصادر عام 1890، فإن «نظرية [الفائدة] تعرض مجموعة متنافرة من أكثر الآراء تضارباً، لا أحد منها قوي بما يكفي للغلبة، ولا على استعداد للاعتراف بالهزيمة».

ولا يختلف الوضع كثيراً اليوم. وتأتي تفسيرات انخفاض أسعار الفائدة في العصر الحالي، من مدرستين فكريتين تبدوان في تناقض: النظرية الكلاسيكية الجديدة، ونظرية كينيز.

ويعتقد المفكرون الكلاسيكيون الجدد من أتباع ألفريد مارشال، وكنوت ويكسل، وإيرفينج فيشر، أن أسعار الفائدة الحقيقية تحددها قوى اقتصادية حقيقية. إن المال (أو السياسة النقدية) محايد، ومعدل الفائدة هو الذي يوازن بين الادخار والاستثمار، كما يحدده تفضيل الوقت والعوائد.

(ومن هنا، فإن عنوان كتاب فيشر لعام 1930 حول هذا الموضوع هو: «نظرية الفائدة»، كما يحددها نفاد الصبر في إنفاق الدخل، وفرصة الاستثمار فيه.). وباستخدام الإطار الكلاسيكي الجديد، يمكن للمرء تحديد مجموعة من العوامل الهيكلية، لشرح الهبوط المزمن في أسعار الفائدة، وتشمل تلك العوامل التغيرات الديموغرافية التي تزيد من المدخرات، والتقدم التكنولوجي البطيء الذي يؤدي إلى تراجع الطلب.

وبالمقابل، وفقًا لنظرية «تفضيلات السيولة» لجون ماينارد كينيز، تُفهم الفائدة على أنها مكافأة للتخلي عن السيولة لفترة محددة من الزمن. وعلى هذا الأساس، لا يتعلق الأمر بالادخار بشكل عام، بل يتعلق بالادخار بشكل خاص. إذا، يحدد سعر الفائدة بشكل مشترك عن طريق توفير السيولة، وتفضيل الوكلاء الاقتصاديين للمال.

وفي الأوقات العادية، تعمل هاتان المدرستان الفكريتان بالتوازي، ويمكنهما التعايش. وركز كينز على المعدل الاسمي، بينما ركز فيشر على المعدل الحقيقي؛ وأكد كينيز على المدى القصير، وأكد فيشر على المدى الطويل.

ولا يتعارض مبدأ عدم الحياد النقدي في المدى القصير لكينز بشكل مباشر مع مبدأ الحياد في المدى الطويل لفيشر. وعادة ما تهبط المعدلات الحقيقية بسبب تأثير السعر الثابت، عندما تتصرف البنوك المركزية بطريقة كينيزية عن طريق خفض أسعار الفائدة الاسمية.

ومع ذلك، مع بقاء أسعار الفائدة الآن، عند الحد الأدنى الصفري أو بالقرب منه، قد يصطدم هذان الرأيان: إن تخفيض سعر الفائدة الاسمي سيؤدي إلى تراجع فوري في توقعات التضخم، وترك سعر الفائدة الحقيقي دون تغيير.

ويشير بعض الاقتصاديين إلى هذا التغيير في التوقعات بأنه «تأثير فيشر الجديد»، لأن تأثير فيشر التقليدي - حيث يتعقب التضخم المعدل الاسمي بعامل واحد إلى واحد - من المفترض أن يحدث فقط على المدى الطويل.

ولن يحدث تأثير فيشر إذا ظلت توقعات التضخم راسخة. ولكن بمجرد أن تبقى المعدلات ثابتة عند الحد الأدنى الصفري، أو بالقرب منه، يبدأ سقف توقعات التضخم بالانخفاض. وسيهيمن تأثير فيشر الجديد على التأثير الكينزي.

ومن ثم، تكمن سمة مميزة لـلحد الأدنى الصفري في كونه المستوى الذي يزاحم فيه فيشر كينز. ويمكن للبنوك المركزية خفض أسعار الفائدة الاسمية إلى الصفر، أو في المنطقة السلبية، ولكن ستبقى المعدلات الحقيقية دون تغيير.

وكلما كان تصرف البنك المركزي كينيزيا أكثر(عن طريق محاولة تحفيز الطلب من خلال تخفيض أسعار الفائدة)، زاد تأثير الاقتصاد بنظرية فيشر، على الأقل من حيث توقعات التضخم. وعندما يحدث هذا، فإن السياسة النقدية لا تصبح عاجزة فحسب، بل قد تكون مضرة.

ولا شك أن منظور فيشر الجديد مثير للجدل في الأوساط الأكاديمية. ولكن حتى لو لم يكن هناك أي تأثير ضار على تأثير فيشر، فإن تثبيت سعر الفائدة، أو أي حالة تصبح فيها الأسعار عالقة لا إرادياً، في الحد الأدنى الصفري، قد يؤدي إلى تضخيم الصدمات. وبالنسبة للبنوك المركزية، فإن تجنب هذه الشروط يمكن أن يثير معضلة.

فهل يجب عليها تخفيض أسعار الفائدة عند الضرورة، حتى لو أدى ذلك إلى فخ فيشر؟ إن جرعة زائدة من السياسة النقدية قد تخلق ظروف «عدم الحياد» النقدية، عن طريق خفض معدل التوازن الحقيقي. ويمكن أن يحدث هذا عن طريق قناتين على الأقل. الأولى هي دورة الطفرة المالية. إذ تشجع أسعار الفائدة المنخفضة باستمرار على البحث عن المخاطر، ويمكن أن تؤدي إلى اختلالات مالية، وتراكم الديون.

وعندما تسوء الأمور، يجب على البنوك المركزية زيادة تخفيض معدلات الفائدة لمواجهة الركود الذي لا مفر منه. والقناة الثانية هي سوء تخصيص الموارد، والذي يمكن أن يحدث عندما تمنع السيولة الكثيرة «التدمير الخلاق» لشومبيتر، من خلال ضخ شريان الحياة في الشركات غير التنافسية.

إن حل المعضلة سيتطلب تغييراً جوهرياً في تصميم السياسة الاقتصادية وتنفيذها. ونحن بحاجة إلى تنسيق أفضل بكثير، للسياسات على الصعيدين الوطني والدولي. وعلى المستوى القُطري، لا يمكن أن تكون السياسة النقدية هي «اللعبة الوحيدة في المدينة».

ولا يجب أن تضطلع السياسة المالية والإصلاحات الهيكلية بدور أكبر فقط، ولكن يجب أن تكون السياسة التحوطية أولوية قصوى، من أجل احتواء دورات الازدهار المالي.

وعلى المستوى الدولي، من شأن شبكة أمان مالية متكاملة أن تساعد في تقليل الحاجة إلى التأمين الذاتي، من خلال الأصول الآمنة. وتتمثل إحدى الطرق الجيدة لتجميع الموارد في تعزيز القوة النارية لصندوق النقد الدولي عن طريق إصلاح نظام الحصص. ولن يُبنى نظام نقدي دولي جديد ومحسّن في يوم واحد، ولكن علينا أن نبدأ من نقطة ما.

 

 

Email