الحرب التجارية وقيود السياسة النقدية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يشهد العالَم الآن حرباً تجارية، ولا تلوح في الأفق أية علامة تشير إلى التوصل إلى حل سلمي في أي وقت قريب. ولكن الآن يبدو الاختلال الطارئ على التجارة شديداً بالقدر الكافي للتأثير سلباً على توقعات النمو الاقتصادي. ولكن هل يعني هذا أن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ينبغي له أن يتوقف تدريجياً عن رفع أسعار الفائدة؟

الرد على هذا السؤال هو كلا بكل تأكيد. فمن غير الممكن استخدام السياسة النقدية لتخفيف الضرر الذي أحدثته سياسات تجارية حمقاء.

الواقع أن الصراع التجاري الأكبر يدور بين الولايات المتحدة والصين. فمن المقرر أن ترفع الولايات المتحدة في يناير التعريفات التي فرضتها أخيراً على الواردات الصينية بقيمة 250 مليار دولار من 10% إلى 25%.

كما هدد الرئيس دونالد ترامب بفرض تعريفات جديدة على بقية الواردات الصينية التي تعادل قيمتها 267 مليار دولار. وسيلتقي مع الزعيم الصيني شي جين بينج في إطار قمة مجموعة العشرين في بوينس آيرس هذا الأسبوع.

ويأمل بعض المراقبين أن يحقق الزعيمان انفراجة كبرى في هذا الطريق المسدود إلى التجارة. لكن هذا يبدو مستبعداً، لأن تلبية المطالبات الأميركية إما تتجاوز قدرة الصين (مثل الخفض الكبير في اختلال التوازن الثنائي) أو لأن هذه المطالبات تعتريها شوائب وإشكالات محددة.

من الحقائق البديهية بين المتعلمين اقتصادياً أنه لا أحد قد يخرج فائزاً من أي حرب تجارية. ولكن من الصحيح أيضاً أنه حتى التأثيرات الإحصائية الكبيرة نسبياً على القطاعات الاقتصادية الفردية، تميل إلى إحداث أثر ضئيل نسبياً على الناتج المحلي الإجمالي ربع السنوي، على الأقل في الأمد القريب. ويعكس هذا التضارب جزئياً حصة الخدمات المهيمنة في الاقتصادات المتقدمة الحديثة، نسباً إلى التصنيع والزراعة.

ولكن مع اتساع نطاق الحرب التجارية واشتداد حدتها، تزداد توقعات النمو الاقتصادي في مختلف أنحاء العالَم قتامة. وقد أصبحت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للتو أحدث هيئة دولية تخفض مستوى توقعات النمو من 3.7% إلى 3.5% في 2019 و2020.

ويبدو أن الحرب التجارية كانت من الأسباب التي أدت إلى تجدد التباطؤ في الصين. وبدوره، سيخلّف التباطؤ الصيني تأثيرات غير مباشرة على دول أخرى، وخاصة الدول المصدرة للسلع الأساسية.

كما تباطأ الاقتصاد الأوروبي في عام 2018، حيث سجلت حتى ألمانيا انكماشاً مفاجئاً في الربع الثالث. وكان من بين الأسباب: انخفاض الطلب من الصين، وقدر غير مسبوق من عدم اليقين بشأن سياسات الولايات المتحدة، واحتمال الخروج البريطاني «العسر»، حيث تترك المملكة المتحدة السوق الأوروبية الموحدة والاتحاد الجمركي.

لا يتفق الجميع على أن سياسات الحماية ضارة بالاقتصاد. فإذا ركز المرء على صافي الصادرات، استناداً إلى حجج أوردها جون ماينارد كينز أو حتى أتباع المذهب التجاري، أليس من الممكن أن يتوقع أن يجد أن تعريفات ترامب تعمل على تحفيز النمو الاقتصادي الأميركي...؟

تشير تجربة العام المنصرم إلى العكس تماماً. فمن الواضح أن سياسات الحماية المنتهجة، كما يبين البعض، لها مردود غير بناء تماماً. كان هذا متوقعاً. فعندما يتباطأ نمو الدخل بين الشركاء التجاريين، تتراجع مشترياتهم من الولايات المتحدة. علاوة على ذلك، انتقمت الصين ودول أخرى بفرض تعريفات على السلع الأميركية.

من ناحية أخرى، وبسبب عجز الموازنة الأميركية الذي يشهد تزايداً سريعاً ــ وهو تطور ملحوظ في بلد حقق هدف التشغيل الكامل للعمالة ــ امتد الفائض في قدرة الإنفاق إلى الواردات. وارتفعت قيمة الدولار في مقابل أغلب العملات، مما أدى إلى تقليص قدرة المصدرين الأميركيين التنافسية، ومرة أخرى بما يتفق مع النظرية.

تمثل التطورات التجارية العكسية صدمة عرض سلبية. وبوسع السياسة النقدية البارعة أن تساعد في التعويض عن الطلب السلبي، لكنها لا تستطيع أن تفعل الكثير أو قد لا تفعل أي شيء على الإطلاق للتعويض عن صدمة الطلب.

ويأتي تباطؤ النمو وارتفاع الأسعار كتأثيرات حتمية لا يمكن تجنبها. ويدرك بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أنه إذا كان له أن يطبق الحوافز النقدية في محاولة لإطالة أمد التوسع الجاري بطريقة مصطنعة (كما ضغط عليه ترامب لكي يفعل)، فسوف تكون النتيجة تغذية التضخم.

الواقع أن التجارة ليست العامل الأكبر في الاقتصاد الأميركي. لكنها مهيمنة في المملكة المتحدة هذه الأيام. ويعتقد كثيرون أن التأثير السلبي المتوقع للخروج من الاتحاد الأوروبي على النمو في المملكة المتحدة لم يتجسد بعد، وهو ما يرجع جزئياً إلى أن بنك إنجلترا عمل على تخفيف قيود السياسة النقدية.

لكن هذا يرجع أيضاً إلى حقيقة مفادها أن صدمة العرض لم تضرب المملكة المتحدة عندما حدث التصويت في عام 2016. وبوسعنا أن نقول إن التأثير الوحيد حتى الآن كان على الطلب (وهو ما يرجع إلى انخفاض الاستثمار، على سبيل المثال، تحسباً للأزمة التالية). ومن الممكن أن تعوض السياسة النقدية عن مثل هذا الانخفاض في الطلب.

وقد تكون المرة المقبلة أسوأ كثيراً. فمن المقرر أن يبدأ الخروج الفعلي من الاتحاد الأوروبي في مارس 2019. وربما تنجح المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في إبرام اتفاق، أو ما هو أفضل (وإن كان أقل احتمالاً)، أن تعقد المملكة المتحدة استفتاءً آخر وتلغي الأمر برمته.

ولكن إذا اندفعت بريطانيا إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي في مارس، من دون أي ترتيبات للحفاظ على التجارة المفتوحة عبر القناة البريطانية، فإن السياسة النقدية من غير الممكن أن تدعم الناتج المحلي الإجمالي، كما حذر أخيراً محافظ بنك إنجلترا مارك كارني.

تعمل السياسات التجارية الحالية على تقليص الدخول الحقيقية في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أخرى كثيرة. لكن السياسة النقدية لا يمكنها التصدي لهذه التأثيرات..هناك عوامل أخرى يمكنها التعاطي معها.

  جيفري فرانكل  - أستاذ تكوين رأس المال والنمو في جامعة هارفارد

 

Email