ميركل ومواجهة الرجال الأقوياء

ت + ت - الحجم الطبيعي

في عام 2011، أجبر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، والمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو برلسكوني على تقديم استقالته، وحل محله ماريو مونتي، وهو تكنوقراطي بارع، بدا كأنه قد نشأ في مختبر المفوضية الأوروبية وغولدمان ساكس.

لكن الأوضاع انعكست، الآن يهدد تحالف شعبوي غير عادي، يضم رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، والمستشار النمساوي سيباستيان كورتز، ووزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، ووزير الداخلية الاتحادي الألماني هورست سيهوفر، بالإطاحة بميركل بسبب سياساتها حول الهجرة.

وفي محاولة لتعزيز مركزها، عقدت ميركل مؤخراً قمة مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قلعة ميسبيرغ خارج برلين، حيث وافقت على أجندة إصلاح الاتحاد الأوروبي التي يبدو أنها تتخطى أحلام معظم أنصار أوروبا.

وقد بدت قمة ميسبيرغ وكأنها اجتماع فرنسي ألماني مغلق أكثر من إعادة إطلاق المشروع الأوروبي. يحاول ماكرون حماية ميركل من القوى المتمردة داخل ائتلافها الحاكم، ويتصرف هذان القائدان كما لو كانا أسياد الكون. ومع ذلك، على الرغم من جميع محادثاتهما حول تحويل آلية الاستقرار الأوروبي إلى صندوق نقد أوروبي وكبح سلوك الحكومة الإيطالية بشأن اللاجئين، يشعر المرء بأن الشعبويين هم من يتولون اتخاذ القرارات.

يبدو أن الحقبة التي تمكنت ألمانيا من خلالها حل الأزمات الأوروبية، عن طريق اتخاذ قرارات سياسية محلية بشكل فعال للدول الأعضاء الأخرى، قد انتهت. وفي المواجهة الحالية، أصبحت ألمانيا ميركل غير مستقرة، يتم اتخاذ القرارات التي تحدد مصير حكومتها في روما وصوفيا والعواصم الأخرى في محيط الاتحاد الأوروبي.

ويتضح هذا التوازن المتغير للسلطة في حرص ميركل على عقد اجتماع مع أوربان في قمة الاتحاد الأوروبي في أوائل يوليو، بعد ثلاثة أشهر فقط من رفضها تهنئته على إعادة انتخابه. منذ ذلك الحين، غيرت عدة عوامل الوضع القائم في السياسة الأوروبية.

بداية، يستعد الحزب الاجتماعي المسيحي لزيهوفر، الحزب الشقيق البافاري للاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي ترأسه ميركل، لصد حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف في الانتخابات الإقليمية التي ستجرى في أكتوبر المقبل. يستضيف الاتحاد الاجتماعي المسيحي أوربان في اجتماعات الحزب بشكل مستمر، حيث كان هو وزيهوفر على اتصال وثيق طوال أزمة اللاجئين.

ثانياً، أعلن كورز في ائتلاف مع حزب الحرية النمساوي الشعبوي «FPÖ» مؤخراً، أن إصلاح سياسات الهجرة في الاتحاد الأوروبي سيكون من أولويات النمسا القصوى أثناء رئاستها مجلس الاتحاد الأوروبي. وثالثاً، في أوائل يونيو، شكلت حركة النجوم الخمس الإيطالية وحزب الرابطة اليميني بزعامة سالفيني، حكومة تجمع بين مجموعتين مختلفتين من الشعبويين. وفي هذه الأثناء، قاموا بإنشاء نموذج للشعبويين اليساريين المناهضين للتقشف واليمينيين الشعبويين المناهضين للهجرة لإقامة تحالفات مماثلة في الدول الأعضاء الأخرى، بما في ذلك ألمانيا.

وبصفته وزيراً للداخلية، اتخذ سالفيني خطوة متشددة بشأن الهجرة، عن طريق إبعاد السفن التي تحمل طالبي اللجوء الذين تم إنقاذهم من البحر المتوسط. يتمثل نهجه في إلهام زيهوفر وكورز الانتهازيين لمضاعفة مقترحات الهجرة الخاصة بهم.

وبصفته وزير داخلية ألمانيا، ينوي زيهوفر اتخاذ قرار بإبعاد طالبي اللجوء المسجلين بالفعل في الدول الأعضاء الأخرى، وهذا قد يضعه في مواجهة مع ميركل، التي تفضل التوصل إلى اتفاق على مستوى الاتحاد الأوروبي لإصلاح نظام اللجوء في أوروبا.

وفي وقت سابق من هذا الشهر، عندما اشتد النزاع بين ميركل وزيهوفر، قام كورز بزيارة إلى برلين، حيث طالب النمسا وهنغاريا وإيطاليا وألمانيا، أو على الأقل وزارة الداخلية الألمانية، بتشكيل «محور استعداد» بشأن قضية الهجرة. حاول كورز، أيضاً، منافسة ميركل في أوائل عام 2016، حين كان يشغل منصب وزير خارجية النمسا. وقد أعلن على شاشة التلفزيون الألماني أنه سيغلق طريق البلقان للاجئين الفارين من سوريا إلى شمال أوروبا.

استطاعت ميركل صد هذه المحاولة السابقة عن طريق القيام بتدخل محلي، ولكن اليوم، اتسعت فجوة الانقسامات بين أوروبا وألمانيا، وعليها أن تجد طريقة لسد هذه الثغرات. على سبيل المثال، في الوقت الذي تضاعفت فيه جهود رئيس الوزراء الهولندي مارك روتا بسبب معارضته «لاتحاد النقل» في منطقة اليورو، وافقت ميركل، من حيث المبدأ، على اقتراح ماكرون لوضع ميزانية مشتركة لمنطقة اليورو.

ومع ذلك، تقع ألمانيا في وسط الرابطة «الهانزية» المسؤولة من الناحية المالية «شمال أوروبا»، ومجموعة فيسيغراد المناهضة للهجرة «الجمهورية التشيكية، وهنغاريا، وبولندا، وسلوفاكيا»، وقوات مكافحة التقشف في منطقة اليورو الجنوبية. في حقبة سابقة، كان باستطاعة مستشارة قوية ذات رؤية حالمة أن تستغل هذه التيارات المختلفة على الساحة السياسية الألمانية. في الواقع، بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، كانت ميركل قادرة على صياغة حلول وسط محلية لصالح القارة بأكملها.

لكن الفرق بين ذلك الوقت والآن هو أن حكومة الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى أوروبا قوية وموحدة من أجل الاستقرار العالمي. بعد ضم شبه جزيرة القرم، كان بوسع ميركل الاعتماد على دعم الرئيس الأميركي باراك أوباما في ذلك الوقت. لا يمكن قول الشيء نفسه عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أو ريتشارد غرينيل، سفيره المختار إلى ألمانيا، فكلاهما يقوض مصداقية ميركل المحلية.

وبطبيعة الحال، لا يمكن التخلص من ميركل الآن، إذ أظهرت بعد 13 سنة من الحكم، قدرتها على التكيف ومواجهة الرجال الأقوياء الطموحين بشكل ملحوظ. لا ينبغي لزيهوفر وكورز وسلفيني وأوربان وترامب أن يقللوا من شأنها.

ومع ذلك، فإن أوروبا تمر بمرحلة حرجة. لقد أهدر أولئك الذين يفضلون الاندماج والانفتاح الأعمق الكثير من الوقت، بينما قام الشعبويون والقوميون بتنظيم قواتهم. بعد قمتهم في قلعة ميسبيرغ، لا يسع المرء إلا أن يتساءل ما إذا كان ماكرون وميركل مستعدَيْن لحصار مطول.

 

* مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية

opinion@albayan.ae

Email