البنوك المركزية وعام الحساب 2-2

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

شهدت المملكة المتحدة انخفاض قيمة العملة، وما ترتب على ذلك من تضخم، نتيجة للتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو ما لا نستطيع أن نعزوه حقاً إلى تدابير اتخذها بنك إنجلترا.

ولعل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كان الأقرب إلى تحقيق هدف تضخم الإنفاق الاستهلاكي الشخصي بنسبة 2%، ولكنه لا يزال يناضل من أجل بلوغ هذه النسبة، على الرغم من سوق العمل الـمُحكَمة. وتظل بنوك مركزية أخرى أبعد عن تحقيق الهدف.

بطبيعة الحال، سوف ينبئنا القائمون على البنوك المركزية بأنها مسألة وقت فقط قبل أن يبلغوا أهدافهم، وأن التدابير التي اتخذوها منعت انهيار توقعات التضخم. ولعل الأمر كذلك حقاً.

فمن المحتمل أن التوقعات لم تنحدر في اليابان وبعض الدول الأخرى لأن البنوك المركزية أشارت مراراً وتكراراً إلى أنها ملتزمة بتفويضها وأنها لن تستسلم. ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون التضخم استقر عند مستوى منخفض لأسباب أخرى.

في مجمل الأمر، ربما خلفت السياسات الاستثنائية التي انتهجتها البنوك المركزية تأثيراً إيجابياً عندما يتصل الأمر بإصلاح الأسواق والإشارة إلى السياسات النقدية المتساهلة الطويلة الأجل. ولكن تأثيرها على النشاط الحقيقي يظل غير مؤكد.

ماذا قد يحدث عندما ينقلب اتجاه السياسات؟ الشيء اللطيف حول التوقعات هو أن تكاليفها تسدد منذ البداية. وربما رأينا بالفعل ماذا يحدث عندما يغير أي بنك مركزي إشاراته: فخلال «نوبة الخفض التدريجي للتيسير الكمي» في عام 2013، تسبب الشعور العام بأن بنك الاحتياطي الفيدرالي ربما ينهي برنامج التيسير الكمي ويبدأ في رفع أسعار الفائدة في إشعال شرارة الاضطرابات في السوق وسرعان ما تسبب ذلك في دفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع.

صحيح أن الأسواق استقرت منذ ذلك الحين، ولكن يتبقى لنا أن نرى ما إذا كان تأثير السياسات غير التقليدية على أسعار الأصول المالية سينعكس في الاتجاه الآخر عندما ينقلب اتجاه السياسات.

فعندما تبدأ البنوك المركزية تقليص ميزانياتها العمومية في عام 2018، سوف تُعاد السندات الطويلة الأجل إلى السوق، وسوف تُمحى حيازات السوق من الاحتياطيات الفائضة. وسوف يحتاج مصدرو السندات إلى إيجاد المزيد من المشترين من القطاع الخاص .

السؤال الأكثر جوهرية هو ما إذا كان من الواجب على البنوك المركزية أن تفرغ ميزانياتها العمومية على الإطلاق. يؤكد جيريمي شتاين، وروبن جرينوود، وصامويل هانسون، من جامعة هارفارد أن البنوك المركزية ينبغي لها أن تُبقي على ميزانياتها العمومية كبيرة نسبياً، لأن القيام بهذا يخلق أدوات آمنة قصيرة الأجل يفتقر إليها العالَم المالي.

وعندما يحاول القطاع الخاص تلبية الطلب على الديون القصيرة الأجل، كما يزعم الباحثون، فإنه يخوض عادة قدراً أكبر مما ينبغي من المجازفة، وهو ما يضر بالنظام بأسره.

ولكن هناك سببين على الأقل ينبغي لهما أن يمنعا البنوك المركزية من جعل الميزانيات العمومية الكبيرة دائمة. فبادئ ذي بدء، القيام بهذا يعني تولي إدارة السيولة كخدمة عامة.

والواقع أن عدم كفاءة القطاع الخاص في أداء هذا الدور خلال الأزمة المالية ليس سبباً وجيهاً بالقدر الكافي لتولي البنوك المركزية أداء هذه الوظيفة بشكل دائم. ومن المعلوم أن الخدمات الأشبه بالتأمين التي يوفرها القطاع العام تُفضي عادة إلى الاعتماد المفرط من جانب القطاع الخاص وبخس القيمة السعرية من جانب القطاع الخاص.

وكما أظهرت أنا وزميلي دوجلاس دياموند من جامعة شيكاغو، فإن خدمات السيولة المقدمة من القطاع الخاص ربما تحقق فوائد إضافية لا يعترف بها دائماً في المناقشة العامة. علاوة على ذلك، تنطوي ميزانيات البنوك المركزية العمومية الضخمة على مخاطر سياسية.

كما يشرح تشارلز بلوسر، الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي في فيلاديلفيا، عندما يوسع أي بنك مركزي ميزانيته العمومية ويستخدمها على نحو غير مرتبط بالسياسة النقدية بشكل كامل، فإنه يعرض نفسه لضغوط سياسية.

أخيراً، هناك مسألة التأثيرات غير المقصودة التي قد تخلفها السياسات النقدية غير التقليدية على خوض المجازفة في الاقتصادات المتقدمة، وتدفق رؤوس الأموال من وإلى الأسواق الناشئة، واستقلال البنوك المركزية في عموم الأمر.

من خلال حضها على البحث عن العائد، ساعدت الظروف النقدية المتساهلة في خفض علاوة المخاطر لجميع أنماط الأصول. ولكن كما حذر كلاوديو بوريو وويليام وايت، من بنك التسويات الدولية، فإن هذا من شأنه أن يعجل بالدورة المالية.

وعلاوة على ذلك، كان الوعد بسيولة وفيرة سببا في زيادة الإنفاق بالاستدانة، سواء بشكل صريح أو ضمني، لأن المقترضين، الذين يراهنون على استمرار القدرة على الحصول على التمويل، ينظرون إلى تحمل المزيد من الديون على أنه مسعى منخفض التكلفة.

ويشير هذا إلى أن النظام المالي أصبح أكثر هشاشة، وهو ما يساعد في تفسير لماذا تفكر بعض البنوك المركزية في تشديد السياسة النقدية برغم أنها لا تزال بعيدة عن تحقيق أهداف التضخم.

من الشائع تشبيه رأس المال الأجنبي بالضيف الذي يتعين على الأسواق الناشئة أن ترحب به. وهي تفعل في أغلب الأمر. ولكن رأس المال الأجنبي كثيرا ما يأتي بشكل جماعي، ثم يرحل بشكل جماعي دون تحذير يُذكَر. ومثلها كمثل أي مضيف، تود الأسواق الناشئة لو تعلم متى من المتوقع أن يصل حشد ضخم من الضيوف، ومتى يعتزمون الرحيل، حتى يتسنى لها أن تخطط للأمر وفقا لذلك. وعندما يقيم رأس المال قراره بالقدوم أو الرحيل على ما يحدث في مكان بعيد، فإنه بذلك يتصرف كضيف بغيض.

تُعَد التدفقات المصرفية عبر الحدود مُعضِلة بشكل خاص. فوفقا لدراسة حديثة أجراها بالك برونينغ من بنك الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن وفيكتوريا إيفاشينا من كلية هارفارد لإدارة الأعمال، عندما يجري إحكام السياسة النقدية سرعان ما تنسحب التدفقات المصرفية عبر الحدود من الأسواق الناشئة، بسبب قِصَر فترة الاستحقاق على القروض المصرفية.

فعلى النقيض من السندات التي يبيعها حائزون أجانب، والتي يمكن أن يشتريها مستثمرون محليون، قد لا يكون في الإمكان التعويض عن خفض الإنفاق من قِبَل البنوك الأجنبية. وفي غياب الإقراض الإضافي من البنوك المحلية، تواجه شركات الأسواق الناشئة غالبا ضغوطا ائتمانية.

ماذا بعد؟يتعلق سؤال أخير بالدور الذي يلعبه تفويض البنوك المركزية في تشجيع ذلك النوع من السياسات الاستثنائية التي شهدناها في السنوات الأخيرة. في الماضي، كانت البنوك المركزية تقول لنا في الأساس: «أعطونا التفويض، ولا تفرضوا القيود على كيفية تحقيق ذلك التفويض».

ولكن برغم أن هذه الصيغة ربما كانت ناجحة إلى حد كبير عندما كانت المشكلة الأساسية هي التضخم المرتفع ــ وعندما كانت الأداة الرئيسية لدى البنوك المركزية هي أسعار الفائدة (وبعض التعديلات الهامشية للسيولة) ــ فإنها لم تعد تعمل بعد أن أصبحت المشكلة التضخم المنخفض.

الواقع أن حرية العمل البعيدة المدى في غياب فهم علمي عملي للكيفية التي يمكن بها تحقيق التفويض تُعَد تركيبة بالغة الخطورة للبنوك المركزية، التي خضعت لضغوط شديدة لحملها على الإبداع؛ وفي الوقت نفسه، هناك أصول قليلة لا يمكنها شراؤها، وقِلة أقل من المقترضين الذين لا يمكنها تمويلهم.

بطبيعة الحال، يفضل القائمون على البنوك المركزية تجنب أي مناقشة لوظيفتهم أو تفويضهم. ولكن بدلا من الانتظار والأمل في أن تتحرك أضواء الرأي العام إلى مكان آخر، من الأفضل لهم أن يقوموا بإجراء تقييم دقيق لسياساتهم على مدار السنوات القليلة الماضية.

ويتحتم على السلطات النقدية أن تبتكر تفويضا معقولا ويمكن تحقيقه، وأن تنشئ مجموعة من الإجراءات والتدابير المسموح بها في تحقيق تفويضها. وإلا فإن عام 2018 سيكون مجرد بداية، وليس نهاية، لعصر جديد شجاع من السياسة النقدية.

راغورام راجان -  محافظ بنك الاحتياطي الهندي في الفترة من 2013 إلى 2016، وأستاذ الموارد المالية في كلية بوث لإدارة الأعمال في جامعة شيكاغو

 

 

Email