طريق كولومبيا الطويل إلى السلام

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

تم التوصل خلال هذا الشهر إلى اتفاق سلام بين القوات المسلحة الثورية الكولومبية «فارك» والحكومة، وخلّف ذلك ردوداً إيجابية جداً. إنه إنجاز تاريخي فعلاً، يَعد بإنهاء صراع دام أكثر من نصف قرن تميز بالخطف والتهجير القسري والهجمات العشوائية على القرى، وأعمال العنف التي أسفرت عن عشرات الآلاف من القتلى.

وتُعد كولومبيا من البلدان التي تستطيع وضع حد للمواجهات العنيفة. بعد صراع في منتصف القرن العشرين استمر عشر سنوات بين الأحزاب السياسية الرئيسة في البلاد - المعروفة اختصاراً باسم «لافيولانسيا» أي العنف - تم وضع حد للنزاع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على خلفية استفتاء عام 1957.

في عام 1990، توصلت الحكومة الكولومبية إلى تسويات سياسية مع جماعات متمردة عدة. على سبيل المثال، أصبحت «م-19» قوة رئيسة في الجمعية الدستورية عام 1991، وأصبح بعض قادتها شركاء فاعلين في الحياة السياسية الديمقراطية.

لكن باتت المفاوضات مع بعض منظمات حرب العصابات صعبة جداً - بما في ذلك أكبر المنظمات أي القوات المسلحة الثورية الكولومبية، وأقل من ذلك بكثير جيش التحرير الوطني التابع للجيش - وما زالت المفاوضات مع جيش التحرير الوطني جارية، ولكن لا يبدو أنها واعدة. وفشلت المفاوضات مع القوات المسلحة الثورية الكولومبية ثلاث مرات - في الثمانينيات، وفي بداية التسعينيات، وفي مطلع هذا القرن.

ويبدو السلام مع فارك محتملاً هذه المرة. ومع ذلك، يجب أن تتم الموافقة على الاتفاق الأخير في استفتاء يوم 2 أكتوبر، وليس كل الناس في كولومبيا على استعداد لقبول ذلك. على وجه الخصوص، الرئيس السابق ألفارو أوريبي، الذي حاول هزم القوات المسلحة الثورية الكولومبية بالقوة، وهو الآن يقود حملة لرفض هذه الصفقة.

وفقاً لأوريبي وللحزب الديمقراطي، سَيسَلم الاتفاق المتفاوض عليه من قبل الرئيس خوان مانويل سانتوس كولومبيا إلى المتمردين. ويريد معارضو الاتفاق إجبار القوات المسلحة الثورية الكولومبية على التنحي تماماً، وهذا أمر مستحيل دون هزيمتها عسكرياً. والخبر السار هو أن معظم الاستطلاعات تشير إلى أن الغالبية العظمى من الكولومبيين سيصوتون لمصلحة الاتفاق.

وعلى افتراض أن الصفقة ستتم الموافقة عليها، فإن حكومة سانتوس ستواجه عدداً كبيراً من التحديات، بدءاً بتنفيذ أحكام الصفقة السياسية. وتشمل هذه الاتفاقية تسريح القوات المسلحة الثورية الكولومبية تحت إشراف الأمم المتحدة، وخلق فرص للمشاركة السياسية لأعضائها السابقين.

كما سيتعين على حكومة سانتوس وضع نظام متفق عليه للعدالة الانتقالية، بقصد التحقيق ومحاكمة وإدانة مرتكبي الجرائم خلال النزاع، وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي وقعت عليه كولومبيا. وحسب النظام الأساسي، ستتم معاقبة الجرائم ضد الإنسانية المرتكبة من قبل أفراد القوات المسلحة الثورية وغيرهم، استناداً إلى مبادئ الحق والتعويض والردع.

وإذا نفذت هذه الأحكام السياسية بشكل صحيح، فإنها ستساعد على تعزيز المصالحة الوطنية. لكن على الأقل ينبغي معالجة الانقسامات الاجتماعية على المستوى المحلي التي ظهرت نتيجة للصراع، ولا سيما في بُؤر العنف. كما ينبغي لمنظمات المجتمع المدني المحلية والدولية، والحكومات الإقليمية والبلدية، أن تضطلع بدور مهم، ولعل تجربة كولومبيا الماضية في التغلب على تحديات مماثلة ستكون مفيدة في هذا الباب.

ويجب دعم مثل هذه الجهود بإحراز التقدم المنشود في مجال آخر: التنمية الريفية التي هي القضية الاقتصادية الوحيدة التي تناولها اتفاق السلام. وهذا ليس من المستغرب، لقد أدى تهميش المناطق الريفية إلى خلق القوات المسلحة الثورية في المقام الأول «فارك»، وتمركز الصراع في هذه البؤر. «يمكن اعتبار تفكيك أنشطة الاتجار في المخدرات الذي شاركت فيه القوات المسلحة الثورية الكولومبية قضية اقتصادية أيضاً، نظراً للحاجة إلى توفير فرص بديلة في المناطق الريفية، وهي مسألة أمنية قبل كل شيء».

وتضع الحكومة الكولومبية الآن اللبنة الأولى للتنمية الريفية الناجحة. في عام 2014، شُكلت لجنة خاصة بتنمية المناطق الريفية التي كان لي شرف ترأسها. وفي العام الماضي، قدمنا خطة للعمل.

وتشمل التوصيات اتخاذ تدابير لسد الفجوات بين البوادي والمدن فيما يخص الحصول على الخدمات الاجتماعية الأساسية في غضون الـ15 عاماً المقبلة. كما تؤكد التوصيات بذل جهود أكثر لتعزيز الزراعة الأسرية التي تمثل تسعة أعشار قوة العمل الريفية، وتحسين فرص الحصول على الأراضي من قبل المنتجين، وتنفيذ برامج التنمية الريفية المتكاملة على المستوى المحلي، وتطبيق الإصلاحات المؤسسية التي تهدف إلى رفع مستوى الوكالات الحكومية المسؤولة عن التنمية الريفية. إن تحقيق هذه الاستراتيجية سيكلف 1.2٪ من الناتج القومي الإجمالي لكولومبيا (GNP)، ويمكن تمويلها جزئياً بإعادة توجيه النفقات الحالية.

كما سيكون لاتفاق السلام مع فارك تكاليف أخرى: تعويضات الضحايا، وتسريح ودمج المقاتلين في الحياة المدنية، إنشاء مؤسسات مؤقتة لتنفيذ الاتفاق. وتشير تقديرات موثوقة إلى أن التكاليف الإجمالية، بما في ذلك التنمية الريفية، ستبلغ نحو 2٪ من الناتج القومي الإجمالي.

ونظراً إلى الفوائد الاقتصادية وخاصة الاجتماعية والسياسية المحتملة للاتفاق، فإن التكاليف المتوقعة متواضعة. على الرغم من ذلك، فإن تغطيتها لن تكون سهلة. ولا سيما أن كولومبيا تعاني حالياً تباطؤاً اقتصادياً كبيراً وفقدان إيرادات الحكومة، بسبب انخفاض أسعار النفط.

هذا هو السبب في عزم الحكومة اقتراح إصلاح ضريبي هيكلي بعد الاستفتاء. إصلاح يهدف في المقام الأول إلى توفير الأموال اللازمة لتمويل عملية السلام، وينبغي أيضاً مواجهة تحدٍّ اقتصادي رئيس آخر: الدخل الإجمالي والتفاوت في الثروة، وتُشكل الفوارق بين المناطق الريفية والمدن فقط جزءاً واحداً منها.

ويؤدي عدم المساواة الاقتصادية إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، كما أظهرت تجربة كولومبيا «وتجربة كثير من البلدان الأخرى». ويجب على كولومبيا التصدي بشكل فعال لهذا الإشكال ومضاعفة الجهود لتحقيق سلام دائم.

* أستاذ بجامعة كولومبيا ورئيس لجنة المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة لسياسات التنمية، كان وزير المالية في كولومبيا ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الاقتصادية والاجتماعية.


 

Email