مصير العلوم الأساسية

ت + ت - الحجم الطبيعي

يُعدّ الصحافي البريطاني مات ريدلي عادة معلّقاً يتسم بالبصيرة الثاقبة والفطنة عندما يتعلق الأمر بفلسفة العلوم وممارستها، بيد أن تقييمه للعلاقة بين البحوث الأساسية والإبداع التكنولوجي - وهو باختصار أن «العلوم الأساسية لا تُفضي إلى إنتاج اختراعات جديدة بقدر ما نتصور» ــ يجانبه الصواب.

يرى ريدلي أن «أغلب الاختراقات التكنولوجية تأتي من أعمال تفتقر إلى البراعة، وليس من باحثين يلاحقون فرضيات علمية». وفي دعم أطروحته، يقدم ريدلي العديد من الأمثلة التي تنطوي على «حالات موازية» من اختراعات، فميزان الحرارة اخترعه ستة أشخاص لا تربط بينهم صِلة، والإبرة تحت الجلد اخترعها ثلاثة أشخاص، واخترع التطعيم أربعة أشخاص، واخترع التلغراف الكهربائي خمسة أشخاص، وهلم جرا. ولكن ما فشل ريدلي في إدراكه هو أن الأسس النظرية لهذه الاختراعات ربما كانت نتيجة لبحث أساسي سابق لم يكن له تطبيق عملي مقصود بعينه، وأن أهميته لم تكن متوقعة على الإطلاق عندما جرى التوصل إليه.

بعد تسلمه جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب عام 1969، ألقى سلفادور لوريا، الأستاذ الذي درست عليه علم الأحياء المجهرية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، تعليقاً مازحاً عن صعوبة إدراك أهمية نتائج البحوث التي يجريها المرء. وإلى كل من هنأه بحصوله على الجائزة، أرسل لوريا رسماً كاريكاتورياً يصوّر زوجين مسنّين يتناولان طعام الإفطار. يصرخ الزوج قائلاً: «يا للعجب! لقد مُنِحت جائزة نوبل لشيء يبدو أنني قلته، أو فعلته، أو فكرت فيه في عام 1934!».

الواقع أن هذه الفِكرة أقل هزلية مما قد تبدو. ففي عام 1911، وجد فرانسيس بيتون روس - من خلال البحث وليس «العمل العشوائي غير البارع» - أن الأورام الخبيثة التي يفترض أنها تنشأ عفوياً في الدجاج تحدث في حقيقة الأمر وتنتقل بواسطة فيروس ارتجاعي. وفاز روس بجائزة نوبل عن اكتشافه، ولكن ليس قبل عام 1966.

وفي مقالة افتتاحية بمجلة ساينس عام 2011، قَدَّم عالم الأحياء الفرنسي فرانسوا يعقوب مثالاً واضحاً لاكتشاف الأمور المفيدة عن طريق المصادفة، فوصف البحث الذي ناله عنه جائزة نوبل في عام 1965. فبينما كان مختبره يعمل على الآلية التي تتسبب تحت ظروف بعينها في حمل البكتيريا إيكولاي فجأة على إنتاج فيروسات بكتيرية (كانت ساكنة في طور السبات)، كانت مجموعة بحثية أخرى تعكف على تحليل كيفية حفز تخليق إنزيم معين في البكتيريا إيكولاي في وجود نوع بعينه من السكر. وعلى حد تعبير يعقوب: «بدا الأمر وكأن النظامين بعيدان بعضهما عن بعض كل البعد وفقاً لقانون الميكانيكيات، ولكن تجاورهما أفضى إلى اختراق حاسم في فهمنا للحياة» ــ أو على وجه التحديد مفهوم «الأوبرون» (مجموعة متكتلة من الجينات التي يجري تنظيم التعبير عنها بواسطة جين تنظيمي مجاور).

ولكن لعل المثال الجوهري على هذه الظاهرة كان أصل تكنولوجيا دمج جينات الحمض النووي (المعروف أيضاً بالتعديل الوراثي)، أو التكنيك الأولي للهندسة الجينية الحديثة الذي نتج عن التآزر بين عدة مناطق باطنية غير مترابطة إلى حد كبير من البحوث الأساسية. فقد أفضى علم الإنزيمات وكيمياء الحمض النووي إلى ابتكار تقنيات لقطع وإعادة وصل شرائح من الحمض النووي. كما سمح التقدم في إجراءات التجزئة بالاكتشاف السريع للأحماض النووية والبروتينات وتحديدها وفصلها. وبفضل المعرفة المتراكمة في مجال علم وظائف الأعضاء الميكروبي وعلم الوراثة، بات من الممكن إدخال حمض نووي «أجنبي» على الحمض النووي لخلية ما وحمله على أداء وظيفته هناك.

وكانت النتيجة اكتساب القدرة على نقل الجينات الوظيفية من كائن حي إلى آخر بكل سهولة تقريباً، وهو الأساس الذي قامت عليه التكنولوجيا الحيوية الحديثة. ولم تكن الثورة التكنولوجية التي جلبها الحمض النووي المؤتلف، من قريب أو بعيد، من ذلك النوع من «التقدم التطوري العنيد» الذي تصوره ريدلي، بل على العكس من ذلك، لم يكن من الممكن تحقيقه في غياب البحوث الأساسية الممولة بأموال عامة.

كان أغلب الردود المنشورة على مقال ريدلي انتقادية، فقد أبرز ستانديش م. فليمنج، وهو مستثمر من كاليفورنيا، مدى جاذبية مراكز البحوث الأكاديمية الكبرى للصناعة، وأشار إلى أن رأس المال الاستثماري وشركات الأدوية وغير ذلك من الصناعات التي تتطلب تكنولوجيا فائقة «تتجمع حول مراكز البحوث الكبرى»، وهو ما يرجع في الأساس إلى حقيقة مفادها أن «العلوم الأساسية تدفع الإبداع». وعلى حد تعبيره، «يتجول أصحاب رأس المال الاستثماري حرفياً في أروقة المعاهد البحثية الكبرى بحثاً عن اختراقات، تتجسد في براءات الاختراع والأوراق البحثية المنشورة التي يمكن بناء الشركات من حولها، ويدعم التمويل الحكومي هذه المراكز».

يؤكد اثنان من الأكاديميين الأوروبيين، لين فيشر وإيبو فان دي بويل، أن نتائج الجهود التي يبذلها العلماء لفهم قوانين الطبيعة الأساسية تشكل أساس الإبداع التكنولوجي، وهما، على النقيض من ريدلي، يدركان أن السبب وراء «عدم ظهور التطبيقات التكنولوجية تلقائياً» يرجع ببساطة إلى حقيقة مفادها أن «أكثر التطبيقات أهمية غالباً ما تكون الأقل قابلية للتكهن بها».

الحق أن العلوم الأساسية توفر في كثير من الأحيان الركيزة الخصبة التي تنبت منها الطفرات والاختراقات التكنولوجية، وربما تتقاطع وتتضافر على نحو غير متوقع مجالات بحثية منفصلة وغامضة. ومن الأهمية بمكان لهذا السبب أن نستمر في دعم البحوث الأساسية الجيدة التصميم، حتى في غياب الفوائد الواضحة التي قد تعود منها على المجتمع.

* طبيب وعالِم في الأحياء الجزيئية، وزميل روبرت ويسون في الفلسفة العلمية والسياسات العامة في معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد.

Email