مئة عام من الهدوء

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الرواية العظيمة لجابريل جارسيا ماركيز «مئة عام من العزلة» تبدأ بعقيد «أشعل 32 حرباً أهلية وخسرها جميعاً» وهو يواجه الإعدام رمياً بالرصاص. إن موقع الحدث هو البلدة الخيالية ماكوندو ولكن هذا لم يخدع إلا القليل من القراء فالرواية هي عن الوطن الأم لجارسيا ماركيز أي كولومبيا.

في الأسبوع الماضي توقفت الحرب الأهلية في كولومبيا- الصراع المسلح المتبقي الوحيد في أميركا اللاتينية - بشكل رسمي. لقد استمرت تلك الحرب أكثر من 50 سنة وراح ضحيتها ربع مليون قتيل وشردت ستة ملايين شخص. يبدو أن السلام قد حل أخيراً رغم صعوبة تصديق ذلك.

يقول المتشائمون إن هناك الكثير من التفاصيل التي يتوجب الاتفاق عليها فلا يزال المقاتلون لم يسلموا أسلحتهم كما لم يتم بعد التوقيع على اتفاقية السلام النهائية ولكن المصافحة التي تمت في هافانا بين الرئيس خوان مانويل سانتوس وزعيم المتمردين رودريجو لوندونيو ايتشفيري «والذي يعرف باسمه الحركي تيموشينكو» تؤذن بنهاية حقبة مأساوية وبداية حقبة واعدة جداً.

لقد أصيبت أميركا اللاتينية منذ بداية الستينات بحالة صعبة من ما أطلق عليه لينين «شيوعية الجناح اليساري:الفوضى الصبيانية». لقد كان ارتداء الزي العسكري واللجوء للجبال هو علاج كل المشاكل الاجتماعية وبذلك ولدت ونمت الحركات المتمردة فقط لتتفكك في أحيان عديدة وتنقسم لمجموعات جديدة وفي أماكن عديدة- خاصة في أميركا الوسطى- انتشر التمرد العنيف بشكل مزمن.

لقد بدأ سفك الدماء في كولومبيا سابقاً لذلك في فترة تعرف ببساطة بفترة «العنف» بعد مقتل المرشح الرئاسي الليبرالي خورخي ايليسر جايتان سنة 1948. لقد توقف القتال بين الليبراليين والمحافظين مع ظهور الدكتاتورية الدمووية لجوستافو روخاس بينيلا سنة 1953 ولقد عاد شكل من أشكال الديمقراطية سنة 1958 ولكن العنف استمر إلى الآن.

بالطبع كان الابن المدلل لفترة الحماسة الثورية في أميركا اللاتينية هو الثورة الكوبية سنة 1958 علماً أن النظرة الثاقبة لتشي جيفارا وقبعته التي تحمل النجمة الحمراء في الصورة الشهيرة التي التقطها ألبرتو كوردا قد عملت على تعبئة جيل بأكمله.

والآن بعد ستة عقود تقريباً فإن حلم الثورة الكوبية في حالة يرثى لها فقائدها الفخور السابق فيديل كاسترو قد أصبح شخصاً بائساً يرتدي بدلات رياضية بألوان صارخة ويظهر بين الحين والآخر ليدلي بتصريحات غير مفهومة على نحو متزايد. في فترة السبعينات والثمانينات تمت مواجهة الثورة الصبيانية من اليسار بقمع إجرامي من اليمين وانتشرت الديكتاتوريات من البرازيل والأرجنتين وحتى أوروغواي وتشيلي بالإضافة إلى السلفادور وجواتيمالا وهندرواس في أميركا الوسطى وهولاء أيضاً قدموا الوعود التي كانت مبنية على أساس القانون والنظام والإدارة الاقتصادية التقليدية.

وكما يبدو أن أوروبا بعد الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي تتجه نحو القومية والشعبوية فإن أميركا اللاتينية تتجه بالاتجاه المعاكس، حيث يحدونا الأمل بأن حقبة حرب العصابات الجبلية والغوغائيين الغاضبين الذين يرتدون الملابس العسكرية الخضراء والجنرالات المخيفين الذين يلبسون النظارات السوداء قد انتهت بالنسبة للأميركيتين. إن الذي يأتي لاحقاً هو حقبة السياسي الحصيف ببدلة رسمية زرقاء مملة والذي يقر بأنه لا توجد حلول سهلة للمشاكل الصعبة والذي يزدري الوعود الفارغة ويفضل العمل وبذل الجهد على طريقة تشرشل. يبدو أننا أخيراً قد وصلنا لمرحة النضوج السياسي.

إن سانتوس نفسه في كولومبيا وماوريسيو ماكري في الأرجنتين وبيدرو باولو كوسزينسكي في بيرو يمثلون الحقبة الجديدة فجميعهم مديرون مؤهلون وتكنوقراط حاصلون على تدريب عال. إن التحدي الرئيسي الذي يواجههم هو توجيه الاقتصاد للإمام من دون الشعبوية - والتضخم والأزمة المالية التي عادة ما تصاحبها، ولكن التغلب على ذلك التحدي ربما سيكون أفضل إنجاز لهم.

لكن يتوجب عليهم ألا يعتمدوا فقط على الخبرة التكنوقراطية فقط كمفتاح للشرعية والنجاح السياسي واليوم أصبح الناس في أميركا اللاتينية يشعرون بالإحباط وخيبة الأمل من الوعود الثورية الزائفة ولكنهم أيضاً ينظرون إلى مؤسساتهم الليبرالية الديمقراطية - والأشخاص الذين يقودوها- بعين الشك وهذا يمكن تفهمه في منطقة تعتبر فيها انعدام المساواة والبيروقراطية التي لا تستجيب للناس والممارسات التجارية الغامضة من مظاهر الحياة اليومية.

واليوم في أوروبا وأميركا اللاتينية فإن الناخبين اليوم بحاجة لأن يشعروا بأن قلوب قادتهم معهم وبأنهم يتصرفون بالنيابة عنهم بما في ذلك المحرومون وليس فقط لخدمة النخبة الغنية. إن الأهداف النهائية للسياسة السليمة هي أهداف أخلاقية ويجب وصفها على هذا الأساس.

عندما يقوم قائد بإساءة إدارة اقتصاد متوسط الدخل بهذا السوء ولدرجة أن يصبح الناس جوعى- كما فعل تشافيز ومادورو في فنزويلا- فهذا يعد تصرفاً غير أخلاقي فالجوع يتسبب في معاناة إنسانية يمكن تجنبها وهذا خطأ أخلاقي واضح. إن السعي لتحقيق توافق وتجنب الديماغوجية والبحث عن حلول تدريجية ومستدامة لا تبدو أعمالاً بطولية ملهمة ولكنها أعمال أخلاقية بشكل كبير ولو استطاع القادة الديمقراطيون في أميركا اللاتينية توصيل تلك الرسالة فعندئذ ستكون الحقبة التي أطلقها اتفاق السلام الكولومبي حقبة طويلة وسعيدة.

* وزير مالية سابق للتشيلي وأستاذ للتنمية الدولية في جامعة كولومبيا

Email