«الربيع العربيّ» بين التطرّف والحرية

سمير العيطة

ت + ت - الحجم الطبيعي

يطرح المؤتمر الإقليميّ الخامس لمركز البحوث والدراسات الاستراتيجيّة للجيش اللبناني سؤالاً مهمّاً على مؤتمريه هو: هل شجّع الربيع العربيّ على التطرّف أم فتح باباً لانعتاق الشعوب العربيّة من نير الأنظمة الديكتاتوريّة؟ ونحو أيّ ديمقراطيّة؟

لافتٌ أن يطرح جيشٌ هذا التساؤل، وهو المؤسّسة الوطنيّة المخوّلة وحدها والقوى الأمنيّة، بحمل السلاح واستخدام العنف، في حين يجب أن تمتثل لأوامر السلطة السياسيّة فيما تراه يحافظ على أمن واستقرار البلاد.

في حين أنّ التطرّف وطبيعة النظام السياسي هي أمور تخصّ تطوّر ذهنيّات المواطنين والعقد الاجتماعي بينهم، أي ما يؤسّس أصلاً للوطن ومؤسساته والمواطنة ومعناها. فهل يجب أن ينفّذ جيش أوامر السلطة في قمع مواطنين حتّى لو كانت استبداديّة؟ ومن الذي يعرّف الفرق بين التطرّف والإرهاب وبين المقاومة، خاصّة في ظلّ ترابط الداخليّ مع الخارجيّ؟

ما يسمّى «الربيع العربي» له أسبابٌ ديموغرافيّة اجتماعيّة اقتصادية. أنّ الشباب أضحوا أغلبيّة السكّان، وأنّ القادمين الجدد إلى سوق العمل لا يجدون عملاً وأفقاً سوى فيما هو هشّ وغير نظاميّ.

هذا يضرب أسس المواطنة ويفتح المجال لانفجار اجتماعيّ، كان سيحصل في النهاية حتّى لو كان النظام السياسيّ ديمقراطياً. وقد شهدت حتّى أوروبا الغربيّة انفجارات اجتماعية مماثلة في ستينيات القرن الماضي غيّرت ملامح العقد الاجتماعي فيها.

إلاّ أنّ ما جعل الانفجار عنيفاً في الحالة العربيّة هو أنظمة حكم ديكتاتوريّة استمرّت لعقودٍ طويلة، فشلت في التعامل سياسيّاً مع هذا الاضطراب الكبير لاحتوائه وللشروع في تغيير العقد الاجتماعيّ بطريقة استباقيّة أو مرِنة. فتحوّلت شعارات الانتفاضات من المطالبة «بالحريّة والكرامة» إلى «إسقاط النظام»، واكتشفت الحشود أنّها قادرة بالفعل على تغيير مجرى تاريخ بلادها.

إنّ سقوط عقدٍ اجتماعيّ قائم على الاستبداد لا يعني حُكماً أنّ الطريق نحو الحريّة سهل.

فالديمقراطيّة هي أصعب الأنظمة السياسيّة إذ أنّها تتأسّس على توافقات وتوازنات اجتماعيّة بين المواطنين، وقواهم السياسيّة والمدنيّة، وبين الخصوصيّات والهويّات المناطقيّة، يتطلّب الوصول إليها حوارات وصراعات نفوذ قد تأخذ وقتاً طويلاً كي تجد السبيل إلى عقد اجتماعيّ جديد يحفظ استقرار البلاد ونظامها السياسيّ. هكذا ترفع الديمقراطيّة الغطاء عن كلّ المشاكل التاريخيّة كما المعاصرة التي كانت كامنة في ظلّ الاستبداد وتطرحها حزمةً واحدة.

إلاّ أنّ هذه التفاعلات الطويلة قد تقوّض أسس الديمقراطيّة ذاتها، إذ أنّها تؤدّي إلى عدم استقرار سياسيّ واقتصاديّ، يجعل أوضاع الشباب، الذي كانوا هم من أطلقوا أوّلاً «الربيع العربي»، أسوأ أحوالاً، خاصّة في المناطق والضواحي ذات التنمية المنقوصة. ما يدفع هؤلاء الشباب نحو التطرّف. وهذه معضلة عرفتها أوروبا خلال القرن التاسع عشر، بحيث لم تأت الحريّات التي وعدت بها الثورة الفرنسيّة إلاّ بعد عقودٍ طويلة.

يزيد من شدّة هذه المعضلة أنّ «الربيع» هو عربيّ، وتتشارك كثيرٌ من الدول العربيّة في خصائصه، لجهة «التسوناميّ الشبابيّ». ولذا بدا بعد تونس ومصر وكأنّ «الثورة» ستنتشر وتتوسع .

كما أنّنا جميعاً نعيش في عالمٍ معولم، اقتصادياً وإعلاميّاً، وضمن صراعات إقليميّة ودوليّة، تبدأ من القضيّة الفلسطينيّة ومن صعود دول إقليميّة جديدة، ولا تنتهي مع إنتاج النفط وفوائضه الماليّة. أضِف أنّ الدول التي تشهد هذه الاضطرابات والتحوّلات تضعَف بحكم واقع الأمر وتصبح عرضة لتجاذبات الصراعات الإقليميّة والدوليّة، مع تدخّلات خارجيّة تدعم أطرافاً فيها، سلماً أو حرباً.

تأتي «ثورات الربيع العربيّ» إذاً بكلّ هذه الأبعاد، في مناخٍ فكريّ رحلت عنه إيديولوجيّات القرنين التاسع عشر والعشرين، أي التحرريّة والقوميّة والاشتراكيّة والشيوعيّة والفوضويّة والمحافظة التقليديّة، وعاد إليه تعصّب الهويّات الدينيّة والمذهبيّة. ليس فقط في المنطقة العربيّة والشرق الأوسط وحسب..

وإنّما في كافّة أرجاء الدنيا متمثّلاً بانطلاق مقولة صراع الحضارات. لكنّ هذا التعصّب هو أكثر تأجّجاً في منطقتنا مع انكفاء محوريّة القضيّة الفلسطينيّة في الهويّة العربيّة، وصعود المطالبة بيهوديّة إسرائيل، وتفجّر دولة العراق بعد الغزو الأميركي إلى كيانات مذهبيّة وعرقيّة. في حين لم ترقَ مفاهيم الحريّة والديمقراطيّة التي تتخطّى هذا التعصّب إلى متطلّبات الألفيّة الثالثة ومجتمعاتها وعولمتها.

فما معنى الحريّة في البلاد العربيّة؟ وهل يُمكن اختزال الديمقراطيّة بالانتخابات والأحزاب السياسية؟ أو أقلّ من ذلك بمجالس شورى وبهيئات حقوق إنسان؟ وماذا عن الديمقراطيّة بين المناطق المختلفة في بلدٍ واحد، تنعدم المساواة بين أرجائه؟ وهل تتمثّل الديمقراطيّة بالنظام السياسيّ البرلماني وحده؟

وما معنى مفهوم «الأغلبيّة» مقابل مفهوم «المواطنة»، خاصّة إذا تمّت قراءة «الأغلبيّة» بشكلٍ مذهبيّ؟ وما مكانة الطروحات المذهبيّة مقابل الفكر الإنسانيّ في أنبل تجليّاته؟ كلّ ذلك في أيّامٍ غدا فيها حتّى ورثة الأفكار القوميّة واليساريّة أو العلمانيّة أو الصوفيّة يُلقون خطابات طائفيّة، كانت الحقبة الماضية تستحي لفظها.

في هذا المناخ، يعشّش الفكر المتطرّف في كلّ مكان. يغذّيه شعور التهميش لأولئك المكدّسين في الضواحي العشوائيّة والمدن المهملة المتسارعة التكاثر، كما انكفاء العالم والجوار عن نجدة منطقة تعيش أزماتها المصيريّة. تؤسّس لفكرها مدارس مذهبيّة لا تبحث عن لقاء الآخر الإنسان، في دينه ودنياه، بل تنشر «حقيقة» أزليّة تُلغي هذا الآخر.

 والأهمّ أنّ هذا الفكر بات يؤسّس لفرض واقعه على المجتمع والدولة من خلال السياسة والسلاح. أي أنّه انتقل من مرحلة المدرسة الفكريّة ضمن مدارس متعدّدة، تشكّل جميعها اجتهاداً نسبيّاً، حتّى لو كان متطرّفاً في أطروحاته، إلى مرحلة البحث عن فرض منظومة هذه الفكرة على المجتمع والدولة بالقوّة.

صعد هذا الفكر المتطرّف منذ الصراع في أفغانستان، وأبرز قوّته في هجمات 9 سبتمبر في نيويورك وواشنطن. وكان من الطبيعيّ أن يستفيد من «فوضى الربيع». بل وجد في طيّاته مجالاً كي ينمو متسارعاً في تونس كما مصر واليمن وسوريا. ليس فقط لأنّ مؤسسات الدولة ضَعُفَت في هذه البلدان، بل لأنّ بلداناً أخرى استغلّته كوسيلة في صراعاتها الجيوستراتيجيّة.

إنّ مفاعيل «الربيع العربيّ» لن تنته بيومٍ وليلة. فهو يزلزل قواعد العقد الاجتماعيّ في كلّ بلد، كما الصراعات والتوازنات الإقليميّة. وهو يضع أبناء هذه البلدان في مواجهة تحديات اجتماعيّة واقتصاديّة وفكريّة وسياسيّة وسياديّة صعبة. بما في ذلك المؤسّسة العسكريّة في كلّ بلد، وهي المؤسّسة الوطنيّة بامتياز، التي سيكون على قادتها دوماً أن يتميّزوا بتفسيرهم للحريّة وحصانتها وحدودها، وللتطرّف وسبل مكافحته.

Email