مشروع مارشال عربيّ... كيف؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية، بقي الوضع الاقتصاديّ في أوروبا الغربيّة هشّاً، والناس يموتون جوعاً وبرداً، ممّا هدّد باضطرابات اجتماعيّة كبيرة. لم يعُد ممكناً الاستمرار في كبح ألمانيا من استعادة اقتصادها الصناعيّ، ولا فرض دفع تعويضات ماليّة ضخمة عليها كما في نهاية الحرب الأولى.

تلك التعويضات كانت أحد الأسباب الأساسيّة في أزمة اقتصاديّة عالميّة أدّت هي ذاتها إلى صعود النازيّة وحربٍ جديدة. وكان استمرار الاضطرابات الاجتماعيّة سيؤدّي إلى صعود حكومات تتقارب مع الاتحاد السوفياتي. حينها قال الرئيس السابق هيربرت هوفر انّ تحويل ألمانيا إلى دولة زراعيّة بدافع الانتقام من جرائمها وهمٌ، ويعني في الحقيقة القضاء على نصف سكّانها أو تهجيرهم.

كانت الولايات المتحدة عندها غارقة في الدين العام، أكثر بكثير من الدول الأوروبيّة الحاليّة، والمشتغلون في صناعاتها العسكريّة يُرسَلون إلى منازلهم عاطلين عن العمل.

هكذا أطلق الرئيس هاري ترومان، عبر وزير خارجيّته الجنرال جورج مارشال، مشروعاً لإعادة إعمار أوروبا بلغ حجمه 4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي خلال خمس سنوات، وبحيث تكون 80 بالمئة منه منحاً دون مقابل.

كانت آليّة المشروع معقّدة تتضمّن تقوية دور الدولة التي تمرّ عبرها المنح، ودعماً للعملات المحليّة، وتقوم على الاستثمار الوطنيّ في كلّ بلد وتشجيع الادخار والإقراض الحكوميّ، عبر تمويل استيراد البضائع الأميركيّة لاستعادة النموّ الصناعيّ في الولايات المتحدة ذاتها. في حين لم تتدخّل الولايات المتحدة حينها مباشرة في طبيعة الأنظمة القائمة في الدول الأوروبيّة، إلاّ عندما كان الشيوعيّون يقتربون من السلطة.

بالطبع استفادت الولايات المتحدة من الأمر، وفرضت عملتها كعملة للتجارة الدوليّة عبر اتفاقيات بريتون وودز التي أنشأت صندوق النقد والبنك الدوليّين، وأنقذت اقتصادها من ركودٍ حتميّ، بل فرضته منذ ذلك الحين كأوّل اقتصادٍ عالميّ.

ولكن الليبراليين انتقدوا المشروع بقسوة على اعتبار أنّه لا يشجّع حريّة التجارة والاستثمار، وأبرز اليساريّون أنّه يساهم في نموّ مسار تنمو فيه مصالح الولايات المتحّدة على غرار المسار الذي انطلق ذاتيّاً بعد الحرب في كثيرٍ من البلدان. لكنّ الجميع في أوروبا يتّفقون أنّ هذا المشروع كان له الفضل في وضع الأسس لما أضحى اليوم الاتحاد الأوروبي.

منطق الاقتصاد السياسي السائد اليوم عربيّاً وأوروبيّاً وأميركيّاً بعيد كلّ البعد عن منطق مشروع مارشال. فقد شكّلت ديون العراق بعد حربه مع إيران أرضيّة حرب الخليج الثانية.

كذلك أسّس الحصار الاقتصادي على العراق خلال 13 سنة لتفكّك مجتمعه ونموّ الفكر المتطرّف وتغلغل النفوذ الإيراني. ثمّ أتت العقوبات الاقتصادية على سوريا كي تدعم تمويل الاستبداد وتحوّل ثورة اجتماعيّة إلى حرب عبثيّة.

بشكلٍ أعمّ كان لعدم اكتراث دول مجلس التعاون الخليجيّ والاتحاد الأوروبيّ وتركيا بالتطوّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة في الدول العربيّة الأخرى الكثيفة السكّان وتركيزها على حريّتي التبادل والاستثمار وحدهما آثاره المباشرة على تفكّك السودان ومن ثمّ اليمن وعلى التفجّرات اللبنانيّة وحروب غزّة، وبالأحرى على انطلاقة مجمل اضطرابات "الربيع العربيّ".

هذه السياسات شجّعت نموّ الفكر المتطرّف ليس فقط على الصعيد الدينيّ أو السياسيّ، بل أيضاً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعيّ. وها هي تونس تذكّر أنّ محيطها تناسى خلال أربع سنوات أنّ مشكلتها ليست فقط في الدساتير وتوازنات الكتل السياسيّة بل أصلاً في نهوض اقتصادها ومجتمعها لترسيخ الاستقرار.

يلوّح كُثُر بمشاريع مارشال لإنقاذ مصر أو لإعادة إعمار سوريا، لكنّهم يتغاضون عن أنّ هذا المشروع لم يكن قروضاً واستثمارات خارجيّة وحريّة تجارة وهيمنة اقتصادية مباشرة فحسب، بل كان، على علاّته، تأسيساً لاستقرار اقتصاديّ اجتماعيّ داخليّ، يأتي بنوعٍ من الاستقرار السياسيّ لتمكين الدولة من التدخّل في الاقتصاد بشكلٍ ناجع. ويتناسى الكثيرون أنّ مشروع مارشال كان مستوحى من أفكار عالم الاقتصاد جون مينارد كينزه، وأنّ آليّاته المعقّدة تجعله أبعد كثيراً من مجرّد التلويح به إعلاميّاً لأسبابٍ آنيّة.

من يحتاج حقّاً أن يُطلق مشروع مارشال تجاه الدول العربيّة الكثيفة السكّان هي أوروبا الجارة. ذلك بالضبط لخروجها هي نفسها من أزمتها الاقتصادية ولتجنّب أزمة دخول مشروع توسيع الاتحاد الأوروبي في أزمة وجوديّة، مع معضلتي اليونان وأوكرانيا.

والأهمّ من ذلك لأنّ الدول العربيّة الكثيفة السكّان قد دخلت مرحلة طويلة من عدم الاستقرار وصعود التطرّف ممّا سيكون له حكماً آثاره على أوروبا عبر المتوسّط. لكنّ لا شيء يلوح لدى الأوروبيين من مستوى ما صمّمه الأميركيّون في منتصف القرن العشرين بخصوص مشروع مارشال.

الولايات المتحدة عرين الليبراليّة صمّمت برنامج استقرار حكوميّ، أمّا أوروبا (أمّ دولة الرعاية) فقد تبنّت وهم أنّ حريّتي التجارة والاستثمار هما كلّ شيء. وهكذا تبقى إسبانيا في توتّرٍ دائمٍ مع المغرب، وتترك إيطاليا وفرنسا تونس لمصيرٍ مضطرب، فما بالنا بمصر ذات المئة مليون نسمة.

دول الخليج تستطيع حتماً أن تساعد ماليّاً الدول العربيّة الكثيفة السكّان، ولها المصلحة الأكبر في المساهمة في تعزيز الاستقرار السياسيّ في هذه الدول، لأنّه بالضبط سيساهم في استقرارها. إلاّ أنّها هي ذاتها تحتاج لسياسات كينزيّة، أي إلى دولة تضبط إيقاع القطّاع الخاصّ وتكبح فيه النشاطات الريعيّة وتحفّزه على الإنتاج رغم فقر الموارد غير النفطيّة.

كما تحتاج لسياسات اجتماعيّة، إذ لن تتمكّن من الاعتماد على ريع العمالة الأجنبيّة الرخيصة وتحمّل البطالة الاختياريّة لمواطنيها إلى ما لا نهاية. صحيحٌ أنّ الفوائض المالية تخلق لها قوّة وحضوراً، إلاّ أنّها ستواجه بالضرورة صعود دول لها قاعدة اقتصاديّة أكثر صلابة، كتركيا وإيران وإسرائيل، سيكون لها التأثير الأهمّ وربّما ستفرض هي شروط استقرار الدول العربيّة أو عدمه.

بالتالي تحتاج دول الخليج للتأمّل جديّاً وبشكلٍ أكثر تطلّعاً للمستقبل البعيد حول النموذج الذي تريده لنفسها ولمحيطها العربيّ، من اليمن إلى مصر، ومن سوريا إلى تونس.

ما هو شكل الاستقرار الاقتصادي الاجتماعي السياسيّ الذي تتطلّع إليه، لنفسها وللمنطقة؟ وما هي الآليّات المعقّدة التي يجب أن تتّبعها كي تدعّم العلاقة بين الدولة والمجتمع في الدول العربيّة الكثيفة السكّان، بما هو أبعد من إطلاق العنان لشركاتها الخاصّة؟.

عندها فقط يُمكن أن ينتج مشروع مارشال عربيّ يؤسّس لما أسّست له الولايات المتحدة لذاتها ولأوروبا الغربيّة. دون نسيان اليابان التي عرفت الشيء ذاته.

 

* رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Email