هذا ما عرفناه

ت + ت - الحجم الطبيعي

نحن في موسم الأتربة والغبار، رياح تهب من كل الاتجاهات فتثير الأرض وتتلون الأجواء، وتتحرك معالمها، وسط هذه الصحراء الشاسعة والمتغيرة يخيل لنا أن التضاريس تتبدل، تلال الرمال تنتقل من مكان إلى آخر، وترى حباتها ترسم خيوطاً متصلة وهي تعلن الرحيل، فتصغر تلة كانت شاهقة عصية على البشر، تصبح ممهدة وكأنها قد جرفت، وترتفع تلة كانت بالكاد ترتفع عن الأرض، وتتضخم، حتى تقف بين الجميع ملقية عليها نظرة من الأعلى، متفاخرة، ولا تدري أنها بعد أيام ستكون هباءً منثوراً.

ومع كل ذلك تبقى الشمس ساطعة، لا يخفيها غبار، ولا تحجبها أتربة متطايرة، نورها يضيء الدنيا، وحرها يلهب قلوباً تنازعتها الأهواء، وتدور الدوائر، وتتعارض مواسمنا مع مواسم الآخرين، نحن لا نعرف متى تبدأ ومتى تنتهي المواسم الأربعة المعروفة، فلا شتاؤنا شتاء، ولا ربيعنا ربيع، زهورنا وأمطارنا تغيب في شهورها المعهودة، وتتناثر مصحوبة بالبرد في وقت تزيُّن النخيل بعذوق الرطب، وكأنها تريد أن تغسله من الأتربة.

بعض الناس تشبهوا بأجوائنا، أصبحوا متقلبين، مساحات الحياد عندهم غدت ضيقة جداً، إما أبيض وإما أسود، إذا أحبوا تغنوا بالحبيب، وإذا كرهوا خسفوا الأرض بمن كان قبل أيام عزيزاً على قلوبهم، تحولات «دراماتيكية» تظهر فجأة، دون مقدمات تأخذ «المتحولين» من مسار إلى مسار، فيصدم الصديق من الذي يراه، ويتساءل عن الذي حدث، ولا يجد إجابة شافية، فهو يرى الأمور بمنظور آخر، يرى الوفاء قمة التعبير عن العلاقة، ويرى المحبة تنبت وروداً وسط الصحراء القاحلة، تلك قواعد الحياة تعلمها من الذين سبقوه، أولئك الأوفياء الذين يحافظون على الروابط التي وثقتها الكلمة الصادقة والمواقف الثابتة، مثل هذا الصديق يحافظ عليه، فهو من أصحاب النفوس الرطبة التي لا تجف ولا تتقلب من شدة حرارة صيفنا أو تحرك رمال صحرائنا، فالنفوس الخيرة تزداد طيبة مع الأيام، ولا تتبدل أو تتحول أو تتغير ملامحها، وهذا ما عرفناه في ناسنا.

Email