التاريخ يشهد

ت + ت - الحجم الطبيعي

مازلت أذكر ذلك اليوم بتفاصيله، إنه الثاني من أكتوبر 1984، وفي الطرف القصي من الربع الخالي، هناك حيث تنتهي الرمال عند أعتاب التاريخ، في مأرب اليمنية التي كانت ذات يوم مملكة، وكانت لها ملكة، وللملكة حكايات سجلها كتاب مطهر تنزيل العزيز الحكيم.

كان هناك قوم، وكانت حضارة، وكانت جنان، وماء يروي ويفيض نحو الرمال، وكان هناك سد عظيم صنع مجداً وعرشاً، ويوم انهار بفعل قوارض أكلت دعائمه انفض الناس من حوله، وزالت الحضارة وتفرق الجمع، وما بقي غير الذين اعتادوا قساوة الحياة.

في ذلك اليوم كان موكب مهيب يخترق بقايا أطلال مأرب القديمة، حجارة تتكلم عن نفسها دون أن تنطق، وعند نقطة التقاء الجبال الثلاثة التي كانت ولاتزال شامخة تجمع أهل مأرب وقادة اليمن ونصبت الخيام، وما أن ترجل ذلك الفارس العربي الأصيل من السيارة ملوحاً بيده، وابتسامته الحانية ترتسم على وجهه البهي، ارتجت الأرض فرحاً مع فرح الذين أطلقوا الصيحات ورددت صداها الوديان، فقد كان التاريخ يصنع تاريخاً في ذلك اليوم، على يد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله وطيب ثراه، وكان أهل مأرب وقبائلها وأبناء ضواحيها واثقين بأن الخير آتٍ إليهم مع قدم الخير التي وطأت أرضهم.

وضع زايد حجر الأساس لبناء سد جديد في مأرب، بعد ألفي عام أو أكثر من الحرمان، بمنحة، لا هي قرض ولا هي تفضل، بل تكريم وتقدير ومحبة، وإحياء لأرض عطشت طويلاً، وعانت كثيراً، فذلك كان زايد زارع الخير في كل مكان، فإن كان قد رحل عنا ها هي أيادي الخير مازالت تزرع بعد أن تشربت من الأصل معاني الحياة والعطاء.

في ذلك اليوم، وبعد انتهاء الاحتفالات بوضع حجر الأساس، غادر، رحمه الله، إلى استراحة غداء قبل مغادرة مأرب مع الرئيس اليمني السابق علي صالح، يرحمه الله، وهناك تجمع شيوخ القبائل وشعراؤها، وما بين حديث وقصيدة مر الوقت، وصالح يريد أن يعود إلى صنعاء قبل مغيب الشمس، ففي الظلام لا يأمن الرئيس سلامته، وكان للضيف رأي آخر، فهو يشعر بأنه بين أهله، فأذن لصالح بالذهاب، واستمر زايد في حواره حتى المساء، هو وكل الوفد المرافق، وكانت العودة بعد ذلك في طائرة عسكرية، مقاعدها من الحبال.

تلك ذكرى مرت أمامي بعد أن سمعت شخصاً يقول إنه مسؤول في حكومة اليمن يفاخر بمأرب مقابل عدن، معتقداً بأنه يتحدث عن نقيصة وهو الناقص لأنه لا يعرف تاريخ بلاده!

Email