بين «السلك» و«السيليكون» العولمة من طريق الحرير إلى وادي التكنولوجيا

شخصيات محورية تستكمل مسيرة العولمة

  • الصورة :
  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

هذا الكتاب الصادر في ربيع العام الحالي، والذي نقدم له عرضاً تحليلياً في جزأين يتخذ من ظاهرة العولمة المستجدة على عالمنا منذ عقد التسعينات المنصرم موضوعاً أساسياً، يرصد من خلاله نوعية وتطور المسارات التي قطعتها الظاهرة المذكورة عبر تاريخ العالم وبما أدى إلى تقلص، إن لم يكن إلغاء، المسافات الفاصلة مكانياً ومن ثم زمانياً بين أرجاء كوكبنا بكل ما يحتشد فيه وما يموج به من أفكار وطروح وتيارات.

والكتاب يتناول أبعاد هذا الاستعراض من خلال عرضه التفصيلي، والتحليلي أيضاً، لعشر شخصيات مرّت على حياة كوكبنا عبر تاريخه الطويل ابتداء من المغولي جنكيز خان في القرن الثالث عشر، وهو الذي ارتبط اسمه بما يوصف بأنه طريق الحرير الواصل من أيامها بين أصقاع الشرق من القارة الآسيوية إلى مشارف الثغور عند المشارف المتوسطية وما يجاورها من تخوم القارة الأوروبية، وليس انتهاء بالزعيم الصيني دنغ هيساو بنغ، الذي عمل على تحويل مسارات بلاده ومعها جنوب شرقي آسيا إلى وجهة العولمة بمعنى التواصل بعيداً عن الجمود الأيديولوجي مع سائر الأنحاء في كوكب الأرض.

وبين الشخصيتين يعرض الكتاب أيضاً الشخصيات المحورية الأخرى التي كان لها إسهاماتها المتميزة، وأحياناً الراديكالية في إرساء وتطوير مؤسسة – ظاهرة العولمة.

صحيح أن العولمة لا تزال تُعد، في نظر الكثيرين، ظاهرة ناتجة عن النصف إن لم يكن الثلث الأخير من القرن العشرين. لكن العولمة – في نظر البروفيسور جيفري غارتن - ظاهرة ممتدة الجذور عبر عشرات العقود الزمنية، إلى حيث يعود بها المفكر الأميركي سالف الذكر إلى حقبة الألف الأولى من ميلاد السيد المسيح.

وفي ما سبق، عَرَضنا للنصف الأول من قائمة الشخصيات العشر التي أدار عليها محاور رؤيته إلى العولمة التي تعامل معها من منظور تقليص المسافة الجغرافية، ومن ثم الحضارية الفاصلة أو الواصلة بين أطراف الشرق الآسيوي الأقصى، وعبّر عنها في عبارة «السلك» أو طريق الحرير الكلاسيكي القديم، وبين أطراف الغرب من الولايات المتحدة الأميركية - ولاية كاليفورنيا حيث يقع «وادي السيليكون» موئلاً لأحدث إنجازات عصر تكنولوجيا المعلومات والاتصالات .

مجموعة الشخصيات الخمس الأولى ضمّت كلاً من الغازي المغولي جنكيز خان والأمير البرتغالي هنري (الملّاح) ومن بعدهما روبرت كلايف المغامر الإنجليزي ثم الملياردير المصرفي الفرنسي روتشيلد وأخيراً سايروس فيلد الذي ينسب إليه إرساء الخط (الكابل) البحري الواصل عبر مياه الأطلسي بين سواحل غربي أوروبا، وسواحل شرقي الولايات المتحدة.

عالم روكفلر

بعدها نتحول في مجالنا الراهن مع صفحات وفصول هذا الكتاب إلى الشخصيات الخمس المتبقية التي ينسب إليها المؤلف فضل التحول إلى العولمة.

وتبدأ هذه المجموعة الثانية بشخصية لها تأثيرها البالغ في التاريخ الأميركي: جون روكفلر هو الشخصية السادسة في هذا الترتيب ينسب إليه مؤلفنا الفضل في بناء صناعة الطاقة في أميركا ومن ثم على مستوى العالم. عاش روكفلر خلال الفترة الطويلة (1839- 1937).

ومنذ بواكير شبابه وخروجه في سن السادسة عشرة إلى خضم الحياة العملية، ظل معروفاً بشغفه الغريب بالأرقام والحسابات. وكان أن قاده هذا الشغف إلى عالم التجارة في كل ما تواضعت عليه أساليب الحياة الأميركية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اللحوم، الأسماك، الملح، الحبوب وما إليها.

ومرة أخرى قادته نجاحات هذا المسعى إلى حيث التعامل مع أهم سلعة عرفها الأميركيون في ذلك الزمان – وتحمل اسمها الأشهر: البترول.

وهنا كان تركيز الرجل على التبرع للمؤسسات التي عملت في مجالات التعليم والصحة وما إليها على مستوى العالم أجمع. ومن المفارقات أن أطلق النقاد الأميركيون مقولة أن روكفلر كان يمارس أنشطته من منطلق محبة اللـه، ومحبة المال أيضاً!

داعية الوحدة الأوروبية

تتحول بوصلة الكتاب إلى فرنسا، وبالتحديد إلى الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه (1888- 1979) ويطلق عليه الكتاب الوصف التالي: الدبلوماسي الذي أعاد اختراع أوروبا.

والوصف دقيق بقدر ما أنه بليغ. لمــاذا؟ لأن هذا المواطن الفرنسي يرجع إليه الفضل في وضع اللبنات الأولى من الصرح القائم حالياً تحت العنوان التالي: الاتحاد الأوروبي.

بدأت الفكرة تراود الفتى الفرنسي جان منذ مطلع شبابه، حين كان يجول في أنحاء القارة الأوروبية بكل ما كانت تضمه مع أوائل القرن العشرين من إمبراطوريات وممالك وإمارات ودوقيات وجمهوريات كانت متفرقة ومشتتة، وبالطبع موزعة الاتجاهات والولاءات، وهو ما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914- 1918).

بعدها ظل الفتى، يلح في طلب اللقاء مع رئيس وزراء فرنسا رينيه فيفاني الذي التقاه واستمع إلى افكاره حول فكرة لم تكن لتخطر على البال وهي أن تلتمس أوروبا سبيلاً لتوحيد كلمتها وجهودها.

بعد اللقاء، توسم فيفاني خيراً في الشاب الواعد، فقرر تعيينه مسؤولاً عن الاتصال بين باريس ولندن.

وكان طبيعياً أن تظل أفكاره أو تطلعاته الوحدوية مجرد سوانح معلقة في الفضاء. ولكن جاء اشتعال الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) ليجعل هذه الأفكار محوراً لاهتمامات القادة والساسة والزعماء. من هنا قرر الجنرال ديجول تعيين مونيه في موقع أقرب إلى وزير التخطيط، بعد تحرير فرنسا عند منتصف الأربعينات.

ومن هذا الموقع مضى مونيه يراجع ويبلور وينقح أفكاره التي كان دائماً يصل إلى صياغتها الأخيرة بعد ساعات طوال من عادة المشي اليومية، ومن ثم جاء اقتراحه بالتدرج في مشروع الوحدة الأوروبية من خلال فكرة متواضعة نسبياً، تجسدت في أواخر خمسينات القرن في تشكيل جماعة الفحم والحديد.

الحديدية.. خريجة أكسفورد

يتحول بنا المؤلف إلى الفصل الثامن من هذا الكتاب الذي يحمل العنوان التالي:

مارغريت تاتشر: السيدة الحديدية التي أعادت الحياة إلى الأسواق الحرة: (1925- 2013).

بدأت مارغريت روبرتس ابنة الأسرة المتواضعة حياتها ونشاطها في بلدة غرانتام المتواضعة شمالي لندن، ودرست الكيمياء في اكسفورد، ومع ازدياد نشاطها في ميدان السياسة وساحات العمل العام اختاروها وزيرة للتعليم.

وكم تعرضت لهجوم الصحافة خلال هذه الفترة، وخاصة حين وصفوها بأنها سارقة الحليب، حين منعت تقديم الحليب لأطفال المدارس الابتدائية توفيراً للنفقات. وحين تولت رئاسة الوزراء عام 1979 أحدقت بها أنواء المصاعب الاقتصادية.

ثم إنها مارست سياساتها وطبقت أفكارها خلال عقد الثمانينات، وهي الحقبة التي شكلت في تلك الفترة إرهاصاً بل نذيراً بغروب شمس النظم الشيوعية - الماركسية الاشتراكية التي كانت تتعامل مع دور الدولة ومهمة الحكومة بمنطق التركيز أو التكريس.

من هنا كان موقف ثاتشر في مجابهة دور الدولة وفي تقليص دور الحكومة هو الذي دفع مؤلف الكتاب إلى إدراج اسمها ضمن قائمة العشرة الذين أدت أفكارهم ومبادراتهم ومساهماتهم إلى رسم طريق العولمة .

مهاجر من المجر

أما الشخصية التاسعة، قبل الأخيرة، فيجسدها أندراس غروف وهو الاسم الذي سجلوه في شهادة ميلاده يوم 2 سبتمبر 1936 في هنغاريا (المجر).

لكن الاسم الذي اشتهر به صاحب هذه الشخصية هو أندرو غروف، وقد اختاره بعد هجرته إلى الولايات المتحدة وحصوله على الجنسية الأميركية وعلى دكتوراه الكيمياء من جامعة كاليفورنيا، ومن ثم كانت انطلاقته إلى عالم الحواسيب الإلكترونية وكان شاغله.

كما يقول مؤلف الكتاب، يتمثل ببساطة بما يلي: التوصل إلى الجهاز (الإلكتروني) الذي يعمل على تحويل ونقل الإشارات الإلكترونية ضمن الدماغ الحاسوبي لتصبح أصغر حجماً وأخف وزناً وأسرع إيقاعاً .

وهنا يواصل مؤلفنا الحديث قائلاً: لم يؤثر عن غروف أمارات العبقرية على نحو ما هو معروف عن نجوم نوابغ من طراز بيل غيتس أو ستيف غوبز.

لكن الإسهام المحوري واللامع للغاية الذي قدمه أندرو غروف إلى عالم الحواسيب والإلكترونيات، ومن ثم إلى مسيرة العولمة، جاء متجسداً في عنصر إدارة هذه الأنشطة المحْدثة وحسن تنظيمها وحشد كل العوامل الممكنة لنجاح أهدافها المنشودة،.

والمعنى أنه فيما شهدت البشرية الثورة الصناعية الأولى في أواخر القرن 18 حين أضفت إنجلترا عنصر الماكنة على صناعة المنسوجات.

ثم شهدت الثورة الصناعية الثانية مع مطالع القرن 20 حين اكتشفت أميركا خط التجميع ومن ثم خط الإنتاج الجمعي الممكن، فها هي البشرية تعيش عصر العولمة، بفضل رواد تكنولوجيا الاتصال وتجلياتها في الإنترنت وكائنات الذكاء الاصطناعي وأجهزة الاستشعار الرقمية وما إليها.

وكان على رأس هؤلاء الرواد صاحبنا المهاجر الهنغاري الأصل أندرو غروف.

رحلة مع التاريخ

يختتم المؤلف رحلته مع تاريخ العولمة مؤكداً في الفصل الحادي عشر من الكتاب أن محطات المتابعة التاريخية التي اجتازتها مسيرة كتابه قد أفضت به إلى شعور من التفاؤل بشأن المستقبل.

وقبل أن يودع البروفيسور جيفري غارتن جمهرة قارئيه، فهو يصارحهم بأنه رغم كل ما صادف مسيرة الإنسانية من عقبات وسلبيات، إلا أن العقود الأخيرة شهدت أيضاً إنجازات تحققت في مجالات الطب والعلاج، مما رفع طول العمر البشري في العالم إلى 70 عاماً في سنة 2010 بينما كان المتوسط في سنة 1970 لا يزيد على 40 سنة فقط لا غير.

لكن الأهم، كما يؤكد مؤلفنا في آخر سطور الكتاب، هو أننا نعيش وسط بيئة سريعة التغير. وبإمكانها أن تنشئ وتحتضن قادةً جدداً يمكن أن يتحلّوا بالصفات نفسها التي اتسم بها كثير من الشخصيات المحورية التي ورد ذكرها في فصول هذا الكتاب، مما يشهد بأمر غاية في البساطة وهو أنه قد يكون الأفضل هو الأمر الذي يمكن أن يتحقق في مستقبل الأيام.

دنغ هيساو بنغ مهندس عولمة الصين

نصل إلى البراغماتي الذي أعاد إطلاق الصين إلى أجواز العالم.. هكذا يصف المؤلف الزعيم الصيني دنغ هيساو بنغ (1904- 1997). بدأ دراسته خلال فترة اليفاعة في باريس، ثم مع مطلع القرن العشرين تزامل مع زعيم الصين التاريخي ماو تسي تونغ، خلال مسيرة الفعل الثوري في الصين منذ عام 1947.

وربما أدى هذا الاقتران بين النشأة الدراسية في فرنسا والشراكة العقائدية مع الرفيق الشيوعي ماو إلى تزويد دنغ هيساو بتلك النزعة العملية الواقعية – البراغماتية على نحو ما يصفها مؤلف كتابنا – وهو ما أدى إلى نقل الصين، بكل وزنها السكاني والتاريخي.

فضلاً عن دورها المحوري في جنوب شرقي آسيا من شرنقة الجمود الأيديولوجي إلى الساحات الرحبة من النزعة العملية ومن الانفتاح على العالم ومن التفاعل على العصر خلال مسيرة قادها دنغ هيساو بنغ الذي بدأ حملته التصحيحية لمسار الصين مع حلول عام 1980 حين أصبح و إمبراطور الصين الجديد.

ولكنه كان إمبراطوراً للتغيير والانفتاح بعد أن جعل جلّ اهتمامه متمثلاً بالتنمية الاقتصادية قبل الاعتبارات العقائدية والمذهبية وما في حكمها، وهو ما جعل مرحلة الزعيم الصيني المذكور نموذجاً للجمع بين الالتزام الفكري والانفتاح الاقتصادي والتصنيعي والتجاري مع العالم كله، النموذج الذي لا يزال يحتذي به كل زعماء الصين حتى كتابة هذه السطور.

وهو أيضاً النموذج الذي عادت به الصين، بكل إمكاناتها وتاريخها إلى تواصلها مع العالم والعصر.

عولمة الخير

غطت أنشطة روكفلر مجالات شتى في صناعة البترول: ما بين التنقيب إلى الحفر، وما بين الاستخراج إلى النقل ومن ثم التسويق.

وما كان لمثل هذه الأنشطة، على ثرائها وأهميتها لترشّح جون روكفلر كي يشغل رقماً صحيحاً وبارزاً في قائمة المساهمين في ظاهرة العولمة، لولا أن أثبت كتابنا في حق الثري - الصناعي الأميركي شيمة إيجابية يلخصها المؤلف في ما يلي: لقد استخدم روكفلر ثروته السوبر - طائلة من أجل إنشاء صناعة (عولمية) أخرى يمكن أن نطلق عليها الوصف التالي: عولمة البر والخير والإحسان.

المؤلف

عمل مؤلف الكتاب جيفري غارتن أستاذاً في جامعة يال، حيث واصل التدريس على مدار عشر سنوات (1995- 2005) أستاذاً لعلم التجارة الدولية والمالية وإدارة الأعمال.

وقد شغل أيضاً منصب وكيل وزارة التجارة لشؤون التجارة الدولية في الفترة من عام 1993 إلى عام 1995 في عهد إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، فضلاً عن سنوات طويلة أمضاها البروفيسور جيفرى غارتن في خدمة كبرى المؤسسات التمويلية والمصرفية في الولايات المتحدة.

تأليف: جيفري غارتن

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة هاربر كولنز، لندن، 2016

عدد الصفحات: 445 صفحة

Email