أميركا ودورها في العالم.. ثلاثة خيارات

واشنطن بين القيادة والمصلحة والاعتزال

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

اسمه المتعارف عليه هو: حركة التاريخ. ومسارها عبر العصور يمضي بين مدّ وجزر، أو فلنقل بين عمليات الجمع والطرح، كما يقول منطق الرياضيات.

والمعنى أن ظلت حياة البشر فوق كوكب الأرض تجنح إلى التجميع والإضافة، يشهد بهذا، تحولات المجتمع البشري من نمط حياة القبيلة العشيرة، إلى نمط حياة المجتمع، الذي يضم شتات القبائل والعشائر، ومن ثم، كان اكتشاف البشر لاختراع حمل الاسم المبسط التالي: ا

لدولة، وهي الكائن أو الكيان الذي يتولى أمر الترتيب والمواءمة والتنظيم لشتات القبائل والأقوام، مستخدماً في ذلك صولجان السلطة أو الشوكة، كما يقول المفكر المسلم ابن خلدون (1332- 1406)، وأحياناً يكون هذا الكيان الدولة، تجسيداً لكائن خرافي بالغ الحزم، إلى حد القسوة، بل إلى حد أن يحمل وصف المارد أو التنّين، على حد ما يذهب إليه المفكر الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679).

في حال المد، تتجلى نزعة التجميع: من القبيلة إلى الدولة، ومن الدولة إلى الإمبراطورية، على نحو ما شهده التاريخ القديم والوسيط، في حالة الرومان مثلاً.

وفي حالة الجزْر، تتجلى نزعة التشتت والتجزئة والانقسام، على نحو ما شهده التاريخ الحديث من تجزؤ الدولة التركية، السلطنة العثمانية منذ أواخر القرن التاسع عشر، ثم بالذات مع اندلاع وانتهاء الحرب العالمية الأولى (1914)، إلى حيث قامت منذ عشرينيات القرن الماضي، الكيانات والدول والممالك، ومن ثم الجمهوريات، التي ما زالت باقية وفاعلة في ربوع الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية حتى اليوم.

خارطة لعالم متغير

هذه الظاهرة التي تُراوح كما ألمحنا، بين المدّ والجزر، هي التي تجلت معالمها في الأيام القليلة الماضية، وإن كان النموذج هذه المرة، يحمل الاسم الشهير التالي: الاتحــاد.. الأوروبي.

الكيان العولمي الأشهر، الذي بدأ العالم يتسامع به بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث كانت البداية أكثر من متواضعة، وتجلت في جماعة الفحم والحديد عام 1951، وفي السوق الأوروبية المشتركة عام 1958، إلى حيث أسلمت قوانين التجميع- التوحيد إلى معاهدة ماستريخت في عام 1993.

وما كان من الاتحاد الأوروبي، إلا أن انطبقت عليه في الأيام القليلة الماضية، قوانين التفريق، وتجسدت على نحو بارز ومشهود، في قرار الناخبين الإنجليز بالأمس القريب، بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وهو ما يفتح الطريق كذلك أمام احتمالات خصم أو عمليات طرْح ينطوي عليها المستقبل بالنسبة لكيان أوروبا الموحدة، سواء جاء ذلك في مرتفعات إسكتلندا أو أصقاع إيرلندا الشمالية أو ربوع الباسك وكتالونيا في إسبانيا وغيرها.

المهم أن خارطة العالم الجيوسياسية كما قد نسميها ما برحت معرّضة للتغييرات، وهو ما يوجد بالتالي تحديات أمام الكيانات السياسة الفاعلة في عالمنا، وخاصة تلك الموكَلة بحكم الحجم أو الإمكانات والنفوذ، أو التجارب التاريخية أو التطلعات القومية، بأن تضطلع بأدوار القيادة أو الريادة على صعيد العالم كله.

وبديهي أن يكون في مقدم هذه الكيانات ذات الأدوار الراهنة أو المطلوبة، كيان كبير يحمل الاسم البديهـــي التالــي: الولايــات المتحــدة.

ثم تزداد هذه البديهية بروزاً وتأكيداً، بحكم اللقب الذي لا تــزال تحمله الولايات المتحدة، وهــو: القــوة - الدولة العظمــى (وأحياناً الأعظــم).

صحيح أن شاركها اللقب نفسه والخطوة نفسها، كيان آخر، سبق وأن حمل اسم الاتحاد السوفييتي، إلا أن الأصح هو أن شهد العقد التسعيني المنصرم، تصدّع وانهيار، ومن ثم، زوال الكيان السوفييتي، تاركاً أميركا في حال أقرب إلى احتكار مكانة الدولة العظمى (سوبر باور)، على امتداد العقد الختامي من القرن العشرين، ثم على مدار هذه السنوات الاستهلالية من القرن الجديد.

3 خيارات أساسية

ولما كانت السنوات المذكورة حافلة بصنوف التحديات غير المسبوقة أحياناً، سواء من حيث غائلة الإرهاب، أو من حيث توالي المشكلات الفادحة، التي ما برحت تستبد باقتصادات عالمنا (أزمة 2008 نموذجاً)، فقد كانت هذه الظروف..

وما زالت، دافعاً إلى أن يعاود الدارسون والأكاديميون والمحللون السياسيون، التفكير في نمط الأدوار وطبيعة الأدوار التي يتعين على أميركا، القوة العظمى، أن تقوم بها في إطار عالم اليوم، بكل ما يرتبط به من ملابسات ومتغيرات وتحديات.

في هذا السياق، تأتي قراءتنا لواحــد من الكتــب المهمة الصادرة في هــذا المضمار. ويحمل الكتاب العنوان المباشر التالي: الدولة العظمــى: ثلاثــة خيــارات بالنسبة لدور أميركا في العالم.

ومؤلف الكتاب البروفيسور أيان بريمر، هو أستاذ العلوم السياسة الأميركي، الأرمني الأصل.

إن أول ما يطالعه القارئ من مقولات هذا الكتاب، هو تأكيد المؤلف، أو تسليمه، بأن العالم الراهن، ما زال خاضعاً لمنطق العولمة، وبمعنى، أن لم يعد من سبيل إلى الانفراد أو الانعزال..

ولا عادت الحدود الوطنية تحمي أي كيان سياسي من التأثير والتأثر بما يدور في سائر مناطق، أو فلنقل أحياء أو حارات تلك القرية، التي تحمل اسم العالم، بعد أن سيطرت على كل مسالكها، ومن ثم توجهاتها وأفكارها، أخطر وسائل الاتصال التي عرفها البشر عبر التاريخ.

تحديات تواجه واشنطن

هنالك لا يتورع مؤلف الكتاب عن مصارحة قارئيه بباقة من الاعترافات المستمدة، كما نراها، من معطيات الواقع الموضوعي الذي نعيش فيه:

يذهب المؤلف إلى أن حلفاء أميركا باتوا يتساءلون عن مدى قدرة واشنطن حالياً على الالتزام أو الوفاء بالمسؤوليات التي ظلت تنهض بها، أو تتحدث عنها خلال الأيام الخوالي، وذلك بعد أن جاءت مطالع هذه الألفية الثالثة، لتحمل معها متغيرات لا سبيل للاستهانة بها، سواء بالنسبة لمعطيات الحاضر أو لتوقعات المستقبل.

في هذا الإطار، باتت أميركا، العظمى، حتى لا ننسى، تواجه تحديات في بقاع شتى من العالم: ما بين الصين إلى روسيا، وما بين الشرق الأوسط إلى أميركا اللاتينية.

في هذا الإطار، يعرض كتابنا إلى ظاهرة الصعود المطرد للصين، التي أصبحت تشكل في رأي المؤلف، تحدياً قوياً، وله طابعه الخاص. لماذا؟، لأن الصين كما يتابعها المؤلف، ما برحت ماضية في بناء نفوذها الإقليمي الخاص، وبصورة متصاعدة، وخاصة ما يتصل بجوانب اقتحام الأسواق السلعية، وإمدادات الطاقة، واشتداد ساعد طموحاتها القومية، وخاصة على صعيد الساحات الإقليمية في مياه المحيط الباسيفيكي.

الخيارات المحورية الثلاثة

من هنا، تتحول مقولات هذا الكتاب إلى طرح السؤال البديهي: في ضوء هذه المتغيرات الراهنة أو المتوقعة، فما هي المسارات أو الخيارات المتاحة أمام أميركا، لكي تواصل دورها كقوة عظمى؟

إن مؤلف كتابنا يحدد 3 خيارات أساسية، على النحو التالي:

الخيار الأول: ويحمل عنوان أميركا التي لا يمكن الاستغناء عنها: ومؤداه أن تواصل واشنطن الاضطلاع بدورها المعهود في قيادة العالم (والمعروف أن مصطلح عدم الاستغناء (indispensable)، سبقت إلى طرحه مادلين أولبرايت وزيرة خارجية أميركا خلال عقد التسعينيات).

الخيار الثاني: ويحمل عنوان: أميركا المصلحية، بمعنى الدولة التي تقصر تدخلاتها في شؤون العالم، وتعاطيها مع الدول الأخرى، على ما يحقق لها مصالحها الذاتية فقط، وهو ما يمكن وصفه، كما يتصور المؤلف، بنهج التعامل الاستراتيجي.

الخيار الثالث: ويطلق عليه مؤلف الكتاب، وصف أميركا المستقلة، حيث الاستقلال في هذا السياق بالذات، يعني أن تظل واشنطن في حال من التباعد، أو تبقى بمنأى عن مشكلات العالم الخارجي، وبالتالي، لا تتدخل إلا بقدر ما يحقق مصالحها القومية، فيما تعمل في الداخل على زيادة ما تنفقه من اعتمادات على التعليم والخدمات الاجتماعية والاستثمار في صلاح وتطوير المرافق الأساسية داخل حدودها.

والمهم، أن كتابنا يختتم مقولاته بدعوة قارئيه إلى صياغة آرائهم، بشأن الخيارات الثلاثة التي سبق المؤلف إلى طرحها، وإن كان المؤلف يشفع هذه الدعوة، بتأكيد أنه شخصياً يفضل الخيار رقم 3: أميركا المستقلة، بمعنى تلك التي تركز معظم اهتماماتها وكل همها على خدمة مصالحها وأوضاعها، ومعالجة أوجاعها ومشكلاتها الداخلية، دون أن تتصور نفسها مسؤولة باستمرار عن مشكلات الآخرين.

التحديات بين أوراسيا والشرق الأوسط

عندما تتحول بوصلة الكتاب من آسيا إلى أوروبا، يرصد المؤلف تحرك الدب الروسي بعد أن أفاق من صدمة، ومن ثم غفوة، ما بعد الحقبة السوفييتية، فإذا به يتطلع إلى المطالبة بنفوذ إقليمي، في أوكرانيا مثلاً، فضلاً عن مهارة الكرملين الروسي في استثمار موارد الطاقة التي يتمتع بها، لا للتعامل فقط من مركز القوة مع الاتحاد الأوروبي، بل أيضاً لاستعادة ربيع علاقات قوية، كانت تربط بين روسيا والصين في سالف الأيام.

في الشرق الأوسط، باتت القوة العظمى الأميركية تواجه تحديات غير مسبوقة، ومعظمها ناجم عن تورط واشنطن في حرب العراق منذ عام 2003، فضلاً عما تعترف به صفحات هذا الكتاب، من العجز عن حسم المواجهة مع جماعات الطالبان، أو مجموعة القاعدة في أفغانستان، برغم انقضاء 13 سنة من الجهــود الأميركيــة فــي هذا الميــدان.

التحديات نفسها التي ما زالت تنال من قوة أميركا ومكانتها وتأثيرها، ماثلة بدورها في أقطار أخرى من آسيا، مثل الهند، وفي بلدان من أميركا اللاتينية، مثل البرازيل.

مجال زمني

في كل الأحوال، يخلص البروفيسور أيان بريمر، إلى أن أميركا لا تزال أمامها فسحة من الزمن الراهن، وبما يتيح لها أن تواصل دورها، بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم (ويمكن من جانبنا كقارئين، أن نعزز هذا التصور، لا سيما في ضوء أحدث التصدّعات البريطانية التي أصابت كيان الاتحاد الأوروبي، فضلاً عما يتهدد الكيان المذكور، على نحو ما أسلفنا من مشكلات وتحديات).

الخيارات الثلاثة لمستقبل أميركا

ينبه المؤلف إلى أن طرح الخيارات الثلاثة أمام مستقبل السياسة الخارجية لواشنطن لا يعني انسحاب أميركا أمام أوضاع عالمها، بقدر ما أن المقصود هو حسن استثمار الإمكانات التي تتمتع بها ، خاصة أن هذه المنعة الاقتصاديةما لبثت أن نالت منها عواقب الأزمة المالية في 2008.

وبرغم أن أميركا ما زالت تضم أعلى نصيب للفرد من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أن جهود الصين لا سبيل إلى تجاهلها، وهو ما أفضى إلى حقيقة أن واشنطن أصبحت أكبر مدين في عالمنا، ما أدى إلى إضعاف قوتها الناعمة .

المؤلف

البروفيسور أيان بريمر، مفكر أميركي من أصل أرمني، درس في جامعة تولين، وحصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة ستانفورد، اختصاصياً في مجال العلوم السياسية وقضايا السياسة الخارجية، لا سيما عن أوضاع الدول التي تجتاز أطوار التحول في عصر العولمة. له كتب عديدة، منها كتابه عن مشكلات القوميات السوفييتية، وكتابه بعنوان »أسلوب جديد لفهم أسباب صعود وسقوط الدول«، فضلاً عن دراسته بعنوان »دول جديدة وسياسات جديدة: بناء دول ما بعد الاتحاد السوفييتي«.

تأليف: أيان بريمر

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: مؤسسة بورتفوليو، نيويورك، 2016

عدد الصفحات: 240 صفحة

Email