الانتفاضات العربية من منظور الاقتصاد السياسي

الانتفاضات العربية مطالبة بالتعلم من أميركا اللاتينية

  • الصورة :
  • الصورة :
صورة
ت + ت - الحجم الطبيعي

يشكل هذا الكتاب، ما يمكن وصفه بأنه حلقة بحثية في سلسلة دراسات صدرت في الولايات المتحدة على امتداد أشهر في عام 2014. وقد صدر في ختامها مع نهاية العام المذكور. وعكف على إصدار مفردات هذه السلسلة كوكبة من الأكاديميين والباحثين من ذوي الاهتمامات العلمية والخبرات الميدانية بأحوال منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي..

وخاصة من منظور رصد التطورات التي لحقت بالساحة المذكورة على مدار السنوات الأربع الماضية، وجاءت على شكل ما شهدته أقطار عربية من تحركات شعبية، اتخذت يومها شكل الانتفاضات الجماهيرىة التي انطلقت على طريق البحث عن الكرامة والحرية، وارتكزت على شرائح من الطبقة الوسطى، بحكم ما حصلته عناصرها من إمكانات التعليم والوعي..

وخاصة من خلال معرفتها بلغات أجنبية وتفاعلها إلكترونياً بشكل يومي أو شبه يومي، مع كل ما يدور في العالم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما أفضى إلى اندلاع مشاعر الإحباط والرفض لما كانت هذه الشرائح ترصده من سياسات النيوليبرالية في مجال الاقتصاد.

ةيتحدث الكتاب أيضاً عن تجارب أقطار أميركا اللاتينية في مجال التحول الديمقراطي، موضِّحاً أهمية التحالف المفروض أن يقوم بين فعاليات المجتمع المدني وقواه المعتدلة، وبين سائر فعاليات النظم السابقة، وخاصة قواها الراغبة في الإصلاح.

كان الشارع ولا يزال هو البطل، هو الشخصية المحورية في مسلسل الأحداث التي توالت على ساحات شتى من رقعة الوطن العربي خلال السنوات الأربع الأخيرة على وجه التحديد.

الشارع بحكم التعريف المنطقي، مكان لا يكتمل وجوده ولا يكتسب مغزاه، إلا إذا احتشدت على مهاده أعداد غفيرة من الجماهير، وهو أيضاً ما حدث خلال الخمسين شهراً التي أشرنا إليها، وكانت بدايتها مع استهلال عام 2011.

من هنا، تبلورت المصطلحات السياسية التي ما برح المراقبون والمحللون يطلقونها على أحداث الأشهر الخمسين المذكورة أعلاه. ولا يزال في مقدم تلك المصطلحات، مصطلحان بارزان على النحو التالي:

الأول مصطلح الربيع العربي، وهناك من ينسبه إلى ظاهرة كانت موازية بصورة أو بأخرى، وسبق أن شهدها المعسكر الاشتراكي- الشرقي الشيوعي السابق: هي ظاهرة ربيع براغ، عاصمة دولة كانت تعرف باسم تشيكوسلوفاكيا في وسط أوروبا. وكان زمن حلول ربيعها التشيكي المذكور هو شهر يناير 1968.

صحيح أن الدبابات السوفييتية سارعت في تلك الأثناء إلى اقتحام شوارع براغ، ومن ثم أجهضت بشائر ربيعها الذي ألمحنا إليه، لكن الصحيح أيضاً، أن دخل مصطلح الربيع قواميس المصطلح السياسي.

المصطلح الثاني هو الانتفاضة، وقد فرض هذا المصطلح نفسه بدوره على المشهد العالمي الراهن، من خلال ارتباطه بنضالات الشعب الفلسطيني، وخاصة مع ظاهرة أطفال الحجارة، التي تجلت منذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، وأفضت..

كما هو معروف، إلى هبّة الشعب الفلسطيني على جناح مدّ شعبي كاسح ضد الاحتلال الصهيوني العنصري للأرض العربية. ثم بلغ من اهتمام عالمنا بظاهرة الانتفاضة الحد الذي لا تزال معه قواميس اللغات الأجنبية، تورد مصطلح انتفاضة بحروفها الأصلية وإيقاعه العربي الفريد دون ترجمته إلى أي من تلك اللغات.

عن الانتفاضة والاقتصاد

تلك هي الخلفيات التاريخية والسياسية التي تصدر عنها مقولات الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور، وقد صدر في الولايات المتحدة خلال الأشهر القليلة الماضية، تحت العنوان التالي: فهم الاقتصاد السياسي للانتفاضات العربية.

وفيما أسهم في بحوث الكتاب عدد من المفكرين والأكاديميين الاختصاصيين، فقد أشرف على تحرير مادته وإعداده للصدور البروفيسور إسحق ديوان الأستاذ المحاضر في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، والخبير بقضايا الشرق الأوسط والقارة الأفريقية.

وبديهي أن اهتمت الفصول الرئيسة لهذا الكتاب، بالأبعاد الاقتصادية لانتفاضات الربيع العربي، لا من منظور الأفكار والنظريات المتداولة في علم الاقتصاد، ولكن كان الاهتمام ينصبّ بالدرجة الأولى على قضية محورية، يمكن تبسيط عنوانها على الوجه التالي: الناس والاقتصاد، أو معيشة الناس وضرورات التغيير.

من هنا أيضاً، جاء تركيز فصول كتابنا على فئة الشباب بالذات ضمن سياق انتفاضات الربيع العربي في أبعادها الاقتصادية، وباعتبار أن أجيال الشباب في أقطار الانتفاضات، تونس ومصر بالذات، هي المعنية بالدرجة الأولى بحقائق وتطورات الوضع والمشكلات الاقتصادية التي تمس حياتها ومستقبلها، بل وترتبط حيوياً بما يجيش بالضرورة في صدور أجيالها من آمال وتطلعات، بقدر ما يرتبط عند الطرف الآخر من المعادلة نفسها، بما يساور تلك الأجيال من هواجس وشواغل، بل من هموم وإحباطات.

يلاحظ القارئ مع هذه الفصول الأولى من هذا الكتاب، أن البروفيسور إسحق ديوان يركز بحوثه التي أسهم بها في المتن على قضية محورية بالدرجة الأولى، وهي: دور الطبقة الوسطى في تفجير انتفاضات الربيع العربي.

الباحث المذكور، يرى أنه دور محوري بالدرجة الأولى، خاصة أن شرائح الطبقة الوسطى هي التي تكون قد تلقت قسطاً وافراً من التعليم، ومن ثمّ، تكون في موقف يتيح لها بالضرورة الانفتاح على ما يدور في أنحاء شتى من خريطة عالمنا..

فيما يتيسر لها هذا التفاعل أو التواصل، سواء بحكم معرفتها، فضلاً عن إجادتها، لغات أجنبية، وأيضاً بحكم مهاراتها في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي: هنالك تنعقد بالضرورة مقارنات بين ما يحدث عندنا وما يحدث عندهم، وخاصة في المضمار الاقتصادي.

ثم لا يقتصر الأمر على مجرد المقارنة، وهي تؤول دوماً لغير صالح الطرف العربي، بل يتعدى ذلك إلى اطّلاع تلك الطبقات الوسطى في العالم العربي، على ما يدور أيضاً في ثنايا دواخل وصميم الواقع الوطني الذي تعيشه تلك الطبقة الوسطى على اختلاف الشرائح والأجيال، والمواقع التي تنتمي إليها الطبقة المذكورة.

وجاءت ظاهرة التواصل الإلكتروني

هنالك تتاح لهم سبل الاطلاع على السلبيات، وأحياناً الكوارث التي تجابه أقطارهم وتتهدد اقتصاداتهم، وتكاد تصادر على آمال مستقبلهم، تتاح لهم سبل التواصل الإلكتروني في عصر القرية العولمية الإلكترونية، إمكانات الاطلاع على كوارث سلوكيات التربح والفساد والاستغلال والتهريب والاحتكار، التي طالما اتسمت بها النظم والفئات التي كانت متربّعة في سدّة الحكم في بلادها..

وهو ما يؤدي، كما تضيف مقولات هذا الكتاب، إلى تكوين وبلورة اتجاه شامل ورأي عام لا يلبث بحكم قوانين الأشياء أن يتحّول إلى ترجمة دينامية تتجلي أبعادها في ما شهدته الساحات والميادين والشوارع من تجمعات تنادت أطرافها إلى أنماط التعبير عن مشاعر السخط، وتفعيل إرادة الرفض لهذا الواقع بكل ما انطوي عليه من أخطاء وسلبيات وانحرافات.

مع ذلك، وفي هذا السياق، توضّح مقولات هذا الكتاب، أن الانتفاضات الشعبية التي شهدتها ساحات قطرية من الوطن العربي لم تكن مدفوعة فقط بحوافز بديهية من قبيل بطالة الشباب أو إحباطات الأجيال الطالعة، برغم أنها عوامل لها كل الأهمية والاعتبار، لكن كتابنا يهتم بتعميق مقاربته التحليلية لجذور وسياقات الانتفاضات المذكورة أعلاه.

هنا، يحيل البروفيسور إسحق ديوان، في تعليقه على الأسباب الهيكلية للانتفاضات، إلى ما شهدته العقود الزمنية الأخيرة (من القرن العشرين)، من اتباع مسارات فادحة السلبية، حملت أيامها عنوان الإصلاحات النيوليبرالية، التي ظلت تستبعد أي دور للدولة في المجال الاقتصادي..

فيما أطلقت كل العنان لقوى وشرائح نجمت قوتها، واستفحل نفوذها في غمار ما شهدته تلك الأقطار العربية (مصر بالذات)، من عمليات الخصخصة التي كانت تتم بغير تمحيص أو ترشيد، وتحت شعارات الانفتاح، بغير ضوابط أو قواعد حاكمة، مما أفضى إلى أن أصبحت الثروة الوطنية بيد فئات مغلقة أو شبه مغلقة من نخبة المتنفذين المقرَّبين، بحكم التعريف، إلى أركان ممارسة السلطة العليا، ومواقع رسم السياسة واتخاذ القرار.

عن الصورة الأخرى

لكن، هناك أيضاً الصورة البديلة أو المقابِلة لهذا الوضع، التي يمكن اعتباره وضعاً صحياً أو مقبولاً، ويلخصها الكتاب على الوجه التالي:

وفيما لا تزال تفاعلات الانتفاضات ونتائجها متواصلة، كما يوضح الكتاب، في أقطار عربية شتى وبدرجات متفاوتة بالطبع من حيث السلب والإيجاب، فإن هناك تفاوتاً في أحوال الأقطار التي يتأمل الكتاب تطوراتها ما بين مصر إلى اليمن، وما بين تونس إلى ليبيا.

وهنا، فالكتاب يجمل نظرته التحليلية في هذا الخصوص، موضحاً أن من هذه الأقطار العربية من لا يزال يناضل في مضمار التعامل والتفاعل بصورة أو بأخرى مع قضايا بالغة التعقيد، وهي تتراوح ما بين قيم الحياة الشخصية، وبين مدى انتشار وحماية حرية التعبير إلى قضايا حقوق الفرد ومشكلات الأسرة، وكلها تتصل بدورها بالعلاقة بين الدولة- النظام وبين المواطن، فضلاً عن ظروف المجتمع بشكل عام.

والحاصل أيضاً، أن من فصول كتابنا من يحاول التوقف من منظور التأمل التحليلي عند ما آلت إليه أحوال الشباب في إطار الانتفاضات العربية.

ومن مواضع الكتاب، ما يذهب إلى أن الشباب المسلم لا يمكن اعتباره في هذه المرحلة أكثر مراعاة من المواطنين كبار السن للقواعد- الشعائر التي يقضي بها الدين، ولكنه ينبه إلى أن الشباب يمكن أن يكونوا أكثر تقبلاً في تصوّر مؤلفي الكتاب لما قد يوصف بأنه الإسلام السياسي.

الفئة الشبابية نفسها يتسم سلوكها بالاندفاع نحو الاعتراض والرفض، قبل أن يتسم هذا السلوك بحرصهم على الإدلاء بأصواتهم الانتخابية في مراكز الاقتراع، على نحو لاحظته مراصد الرصد السياسي واستطلاعات الآراء، وهنا أيضاً، يصف الكتاب مثل هذه المواقف أو السلوكيات، بأنها ليست مجرد ظواهر سلبية، ولكن تشكل في ما يبدو تركيبة خطيرة تجمع بين مواقف وسلوكيات شديدة التباين إلى حد خطير.

 آفة اقتصاد المحاسيب في معاجم الاقتصاد

كان منطقياً أن يتم الزواج الباطل بين السلطة والثروة، وأن يفضي هذا الوضع إلى ما أصبح يطلق عليه في معاجم الاقتصاد المعاصر، الوصف السلبي التالي: »اقتصاد المحاسيــب«.

وقد أفضى هذا الوضع، كما يؤكد فصل التحليل الاقتصادي من كتابنا، إلى تدمير القاعدة الاقتصادية للطبقة الوسطى، ومن ثم، إلى دفع الشرائح الواعية والمحبطة من الطبقة المذكورة إلى دينامية التحالف مع الشرائح الأدنى الأفقر من الطبقة الوسطى نفسها، ومع مَن في حكمها، أو بالأدق مَن دونها من طبقات الفقراء المهمشين والمعوزين والمحبَطين في قاع المجتمع.

وتنتقل فصول الكتاب إلى متابعة وتحليل أنماط التغيير الذي شهدته أقطار الانتفاضات من حال إلى حال.

هنا، يعمد سائر محللي السياسة من المساهمين في مادة الكتاب إلى استخدام نهج يطلق عليه واحد من نقّاد كتابنا، وهو البروفيسور جون ووتربري الوصف التالي:

»نهج التحول«. ويعني به المنظور العلمي الذي أطلّ منه الباحثون على ما سبق وتعرضت له قارة أميركا اللاتينية من تحولات في نظمها السياسية وأوضاعها الاقتصادية، بحيث آلت أمورها إلى الأخذ بنهج التحول الديمقراطي. وهنا، يؤكد الكتاب أيضاً على أن هذا النهج التحّولي، إنما ينطوي على جانبين، وهما:

(1) المجتمع المدني: الذي ينقسم إلى فئة اسمها الراديكاليون- المطالبون بتغييرات جذرية وحاسمة، وفئة المعتدلين الذين يفضلون سبيل التؤدة والتدرج في وتيرة التغيير.

(2) ثم هناك أيضاً أنصار النظم السابقة لأحداث الانتفاضات، وتصفها فصول الكتاب بأنها فئة الأوتوقراطيين، وقد يجوز من المنظور العربي إطلاق صفة الفلول على نحو ما راج به استعمالها على الصعيد العربي.

ثم يلفت أنظارنا إلى أن الكتاب يقسم الفئة المذكورة بدورها إلى جماعتين، وهما:

(1) الإصلاحيون

(2) المتصلبون

وفي ضوء هذه التقسيمات المستقاة من دروس تجربة أميركا اللاتينية، يخلُص كتابنا إلى ما يلي: إذا ما آلت الأمور إلى أيدي معتدلي المجتمع المدني (العربي)، ومعهم المصلحون، حتى ولو كانوا من النظم السابقة.

 المؤلف في سطور

البروفيسور إسحق ديوان يعمل أستاذاً محاضراً في كلية كيندي الشهيرة لأصول الحكم في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة، كما أنه مدير الفرع المعني بشؤون أفريقيا والشرق الأوسط في مركز التنمية الدولية في أميركا. حصل المؤلف على درجة الدكتوراه في علم الاقتصاد في عام 1984 من جامعة كاليفورنيا في بيركلي..

وقام بالتدريس بجامعة نيويورك، قبل أن يلتحق بالعمل خبيراً وباحثاً اقتصادياً بالبنك الدولي في واشنطن بين عامي 1987- 1992، حيث اشتهر بتولّيه مهمة التعامل مع أزمة الديون في أواخر القرن الماضي. واستثمر المؤلف خبراته من أجل المشاركة في تناول المنازعات في مناطق شتى، كفلسطين واليمن.

عدد الصفحات: 308 صفحات

الناشر: مؤسسة وورلد ساينتفيك، سنغافورة، 2015

Email