السعي البشري للتطور والرفاه المعيشي

ت + ت - الحجم الطبيعي

قال المؤلف جاكوب برونوفسكي، في كتابه الذي حمل عنوان: التطور الحضاري للإنسان: «إن الماكينة أداة لاستخلاص الطاقة من الطبيعة، بداية من أبسط مغزل حملته النساء وحتى أول المفاعلات الذرية التاريخية وكل أجياله التالية...

والقضية بهذا ترجع إلى زمان أبعد عندما سخر الإنسان لأول مرة طاقة أكبر من طاقته ألا وهي طاقة الحيوان وكل ماكينة تعتبر نوعاً ما من حيوانات الجر حتى المفاعل الذري، إنها تزيد الفائض الذي اكتسبه الإنسان من الطبيعة وقد حدث ذلك منذ بداية الزراعة وعلى هذا فكل ماكينة تعيد تمثيل المشكلة الأصلية...»، الذي نصل له أن هذا الجهد البشري ومنذ الأزل كان يركز على رفاه الإنسان، لذا انصبت جهود الإنسان وفي مختلف الحقب الزمنية على تطويع الطاقة لخدمته أياً كان نوع هذه الطاقة سواء من مصدر طبيعي أو حيواني.

ونحن هنا نصل لنقطة نتفق عليها جميعاً، وهي أن عالمنا مثال واضح للنجاح في تطويع هذه الطاقة، لأننا نعيش في هذا العصر توهجاً وتقدماً وحضارة، إلا أن المشكلة ليست هنا ولا في طبيعة المبتكرات والمخترعات ولا تسخير الطاقة للدفع بنا نحو الرقي والتميز، بل في تغيرات كثيرة حدثت في السلوكيات والاهتمامات، لأنه الركض المتواصل للإنسان بات واضحاً أنه يهدف إلى جمع أكبر قدر من النقود في سعي مادي، لأنه بواسطتها يحصل على الغذاء والمأوى والمسكن، وهذا السعي الحثيث الذي يتسم في أحيان كثيرة بالعنف والتهافت والقسوة يشبه إلى حد ما سعي الإنسان البدائي للبقاء والذي استخدم وسائل وأدوات متواضعة لكي تساعده في مهمته، لكن في العصر الحاضر المتوهج بالرقي والتطور داهمت الإنسان عوامل كثيرة تهدد بقاءه، ففضلاً عن العشرات بل المئات من أنواع الأسلحة الفتاكة والمدمرة والحروب المتواصلة، غير الصناعات الضخمة التي لوثت الأجواء وأثّرت بشكل واضح على مناخ الأرض بأسره، وقد شاهدنا تغييرات مناخية خطيرة كذوبان الجليد في القطب الشمالي والجنوبي، وحدوث عواصف وأعاصير مميتة مثل تسونامي..

بجانب هذا جميعه تزايدت الأمراض والفيروسات التي تفتك بالإنسان يومياً، ورغم الجهود الطبية الحثيثة والتي نسمع بين وقت وآخر عن اكتشاف لعلاجات وأمصال جديدة، ظلت كثير من الأمراض دون علاج وحلول جذرية مثل أورام السرطان ونقص المناعة المكتسبة الإيدز، وغيرها..

صحيح أن الإنسان تمكن من التغلب على عدد من الأمراض التي حصدت الملايين فيما مضى، ووجد علاجات شافية منها مثل الملاريا والحصبة والجدري ونحوها، إلا أنه ورغم أن إنسان اليوم أصبح أكثر تطوراً، وتساعده الآلة التي سخرها لخدمته لكنه أيضاً أشد ألماً وأكثر هماً، فالفقر والبؤس وغيره تزيد من حيرته وغربته على الأرض، وتبعاً لذلك تزايدت الأمراض النفسية والمشاكل الأسرية، بل إن بعض علماء التربية لا يتوانون عن التحذير من أن المؤسسة الأقدم في تاريخ الإنسانية، وهي المؤسسة الزوجية والتي تعتبر المنتج الأول لأفراد صالحين في المجتمعات باتت مهددة بالتفكك، ولعل ارتفاع أرقام الطلاق وانفصال الزوجين ليس في بلد دون آخر بل في كافة أرجاء العالم مؤشر على وجود هذه المعضلة، كما أن تأخر الزواج والتقدم في العمر دليل على وجود هذا السياق من المشكلة.


لا أريد أن يفهم من كلماتي أنها معادية للتطور والتوهج الحضاري، فهذا أبعد ما يكون عن التفكير، لكن ما يهم في هذا السياق أن تكون مسيرتنا محملة بالمبادئ والقيم الصحيحة، وألا نتخلى عن قلوبنا وإنسانيتنا وسط هذا التهافت المؤلم..

إن قسوة الإنسان في هذا العصر وصلت إلى حد بالغ وواضح، وباتت نماذج وقصص الألم الإنساني لا تصيب فرداً أو جماعة قليلة بل تجرف المئات وفي أحيان الآلاف من البشر فتقتل وتصيب وتجرح فضلاً عن الآلام النفسية والروحية، وهذا بحق كان مبعث الحزن، لكل متابع للحركة البشرية في العالم.

Email