التاريخ بين العلم والماضي والواقع

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعاني البعض من دراسات العلوم التاريخية من خلل يحد من دقتها وجودتها العلمية، وفي المقام الأول سبب مثل هذا لخلل يعود للمهابة والتقديس، فهما يمنعان أو يحدان من تقديم دراسة منصفة ومحايدة لأحداثه، وهذا يسمح بتصنيف جانب كبير من محاولات كتابة التاريخ بأنها بعيدة عن العلم ومناهجه وأدواته.

في اللحظة نفسها الكثيرون منا سبق وسمع أو قرأ صفة مفادها أننا أمة ماضوية، وأن شعوب عالمنا العربي تتمتع ذاكرتها بأحداث الماضي، وهو وصف يراد به اتهامنا بالتخلف المعرفي وعدم الاهتمام بالمستقبل.

ومن وجهة نظر شخصية أعتبر أنه لو قدر وكان هذا الوصف صحيحاً لكان حال الأمة العربية أفضل، ولَمَا انتشرتْ فيها الصراعات كالنار في الهشيم، وهي صراعات في مجملها مكررة سواء في السبب أو النتيجة، بمعنى أنها حروب مدونة في كتب التاريخ بتفصيل يشابه واقع اليوم بدرجة مذهلة، لكن الذهنية والعقلية العربية لم تستحضرها ولم تعمل على دراستها، ولو أنها فعلت لما تكررت الأخطاء.

نحن فعلاً نقرأ التاريخ، لكنها قراءة من دون وعي أو فهم، وكما قال الروائي والفيلسوف الأمريكي: «هؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بإعادته».

وأعتقد أن هذا ما يحدث في عالمنا العربي اليوم، وهو إعادة للطائفية والكراهية والضيق من الآخر، وهي شرارات سبق وأن وقعت في تاريخنا، ولكن وكما يظهر فإن البعض يعاني من جهل مطبق لذا فإنهم يقومون بإعادة نفس الأحداث.

للأديب الكبير الراحل الدكتور طه حسين رأي في هذا الجانب يقول: «التاريخ سخيف لا خير فيه إن كان يعيد نفسه، لأن ذلك يدل على أنه لم يقدم للناس وعظاً ولا إصلاحاً».

مرة أخرى أعتقد أن الذي يحدث لدينا نظرة قاصرة وغير موضوعية أو غير علمية للعلوم التاريخية أو لعلم التاريخ نفسه، نحن لا نفهم سبب دراسة التاريخ، وأيضاً لا ندرك الأبعاد الحقيقية والعلمية لهذا العلم الهام، وإذا تم دراسته فإن الذي يتم مجرد سرد للأحداث كقصة وقعت في الزمن الفلاني لا أكثر ولا أقل، ويتم الابتعاد عن تحليل الحدث نفسه، أو بمعنى أدق لا يتم دراسة واقع وتسلسل الحدث وتبعاته وما نتج عنه أو ما أسس له.

أو كما قال ابن خلدون: «إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق». وهذا الذي يحدث في هذا الزمن، نظرة سطحية غير عميقة للتاريخ وأثر أحداثه على واقعنا اليوم، وقد تجد مثل هذا القصور ماثلاً حتى في البعض من أقسام العلوم التاريخية في الجامعات والمعاهد المتخصصة أو في أقسام العلوم الإنسانية بصفة عامة.

هناك مدارس في عالمنا العربي، تنظر للنص التاريخي وكأنه ثابت كما هو فيتم رفض محاولة النظر أو دراسة أي جوانب للحدث أو أسباب وقوعه، أو تحليله من منظور فلسفي أو سياسي أو اجتماعي.

حيث يرون أن ما تم نقله لنا وما وصلنا لا يحتمل أي تأويلات أو شروح، والمشكلة الكبيرة أن يتم الاستشهاد بمثل هذه الأحداث التاريخية وكأنها من ضمن مصادر التشريع في ديننا، ثم نقوم بفرضها على البعض من المجتمعات العربية، رغم أن البعض من تلك المجتمعات واضح أن تركيبتها السكانية عبارة عن شرائح مختلفة ومكونات متعددة، أو هي خليط من مذاهب أو قوميات لكل واحدة منهم ثقافة وعادات وتقاليد وإرث مستقل عن الآخر.

هنا يكون التاريخ قد أحدث شرخاً غير مبرر في هذا المجتمع أو ذاك، والذنب لا يقع على التاريخ وإنما على نظرتنا غير المنصفة البعيدة عن روح هذا العلم والإنسانية، والمطلوب اليوم وبإلحاح إعادة النظر في أدوات وطرق دراسة تاريخنا.

Email