عالم الشريعة بين الانغلاق والانفتاح

ت + ت - الحجم الطبيعي

إن الاتزان والاعتدال في كل شيء مطلب شرعي وحضاري، كما قال تعالى: {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً}، ومن مظاهره الانفتاح على المجتمع والوطن، ومواكبة رؤية القيادة وتطلعاتها، ودعمها والسير في ركبها، ومن أهم الشرائح التي لا غنى لها عن ذلك العلماء من مختلف الفنون، والمنخرطون عموماً في الخطاب الشرعي والفكري والثقافي، وكذلك المؤثرون في مواقع التواصل الاجتماعي وغيرهم، فيحتاجون حتى يكون خطابهم إيجابياً مثمراً إلى أن يكونوا على دراية ووعي بواقع مجتمعهم ووطنهم، حتى يقدموا الخطاب الأمثل المناسب من جهة أولويات ما يطرحون، ومن جهة انسجامه مع رؤية القيادة وتطلعاتها.

وعالم الشريعة محتاج إلى مراعاة هذه القيمة المهمة، حتى يكون صمام أمن وأمان لوطنه، وداعماً لوسطيته وقوته، يعزز مصالحه العليا، ويحفظ مقاصده الكبرى، ويرسخ القيم الشرعية في طاعة الحاكم، والالتفاف حوله، وتعزيز الوحدة والتلاحم، ونبذ الفرقة والتنازع، وترسيخ الاعتدال والثقافة الإيجابية، والتصدي للغلو والتطرف، وهو لا يستطيع أن يحقق هذه الغايات والمقاصد على الوجه الأكمل إلا إذا كان منفتحاً على مجتمعه، مطلعاً على واقعه، عالماً برؤية قيادته، معززاً لها، وإلا كان مضمون وروح خطابه خارج المكان والزمان، فيقل أثره ونفعه، بل قد يعتريه الخلل والاضطراب بسبب سوء تناوله للقضايا والمسائل دون أن يتصورها تصوراً صحيحاً، أو قد يتكلم عنها بما يؤدي إلى مفاسد وأضرار، ويتنكب طريق الحكمة والاتزان.

ولهذا أشار أهل العلم والفقه إلى أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إشارة منهم إلى أن اطلاع العالم على الواقعة وتفاصيلها مطلب أساسي، وله آثاره المباشرة في صحة الحكم من عدمه، حيث يتمكن العالم من فهم المسألة الواقعة، وإسقاط الدليل الشرعي عليها، سواء كانت مسألة صغيرة أو كبيرة، كما أكدوا على أهمية حفظ الضرورات الكبرى، ورعاية المصالح العليا، وجلب المنافع ودرء المفاسد، وأصَّلوا للقواعد الفقهية الكلية، ومنها أن العادة مُحكَّمة، وأن الضرر يزال، وهذا يقودنا إلى باب مهم، وهو أهمية تفهم العالِم للمحيط الذي يعيش فيه، وانفتاحه على بيئته وبلده، ومعرفته برؤية قيادته وتطلعاتها، والوعي بما يهدد وطنه من المهددات والأخطار، حتى يتمكن من تحقيق تلك الغايات التي أشرنا إليها كما ينبغي.

وكلما كان العالم أدرى بمجتمعه ووطنه مطلعاً على رؤية قيادته عالماً بالمهددات والأخطار كلما كان أقدر على تناول المسائل والقضايا بحكمة، ووضع الكلام في موضعه الصحيح، والتصدي للمهددات باقتدار، فتراه يُحذِّر من الشائعات إذا ظهرت، ويُفند الشبهات إذا برزت، ويعتني بالقضايا التي تمس الحاجة إليها، ويتصدى لأي باب يستهدف وطنه، وكلما كان منغلقاً على نفسه جاهلاً بمجتمعه ووطنه غير مدرك للأضرار والأخطار كلما كان ضعيف الأثر، وقد يغرد خارج السرب، بل قد يعتريه التخبط والاضطراب عند تناول المسائل والقضايا، وقد يضر حيث يريد النفع.

ومن أخطر صور الانغلاق التي ينبغي الحذر منها، التكتلات الحزبية، والعزلة الفكرية، التي تجعل صاحب هذا الخطاب أو ذاك أسير حزب ما، يوالي له، ويتبع أفكاره، ويعتزل قيم مجتمعه، ورؤية قيادته، ويتصادم معها، ويرمي إلى هدم ذلك كله، وإحلال منظومته الأيديولوجية، وفق نهج راديكالي متطرف، ويشهد لخطورة ذلك ما حدث في قصة الخوارج، وهم مجموعة كانوا في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولم يكونوا من الصحابة، جمعوا بين العزلة الواقعية والفكرية، حيث انعزلوا عن بيئتهم ومحيطهم ومجتمعهم، وتجمعوا في منطقة يقال لها حروراء، وجمعوا إلى ذلك العزلة الفكرية، فتبنوا أفكاراً متطرفة، ووقعوا في قطيعة فكرية مع قيم مجتمعهم ورؤية قيادتهم، وتشددوا حتى كفروا الصحابة، رضي الله عنهم، واغتروا بأنفسهم، حتى ظنوا أنهم أقدر على فهم الدين، وأكثر في التقوى والعبادة، وأحرص على صلاح المجتمع، وأرادوا فرض ما يريدون بالعنف والإرهاب، حتى جرى منهم ما جرى في واقعة النهروان، وأصبحوا عبرة لمن بعدهم.

إن ذلك كله يؤكد خطر الانغلاق والتحزب والتطرف، وواجب علماء الشريعة وغيرهم أن يكونوا صمام أمان لوطنهم، يعززون قيمه الوسطية، وثقافته الإيجابية، وتسامحه وتعايشه، ويدعمون رؤية القيادة وتطلعاتها، ليستمر هذا الوطن في الصدارة والريادة في شتى الميادين، ويستمر تلاحمه وازدهاره، وليبقى منارةً مشرقة للعالم بأسره.

Email