ومن قال إنها محايدة؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

«هذه آخر حلقة أقدمها في هذه الإذاعة، حيث لا يمكنني أن أعمل، أو أقيم في دولة تشن حالياً عدواناً على بلادي، وتلقي بقنابلها على أهلي في مصر.

ولتلك الأسباب أقدم استقالتي على الهواء، وسوف أعود إلى بلادي أقاتل بجانب أهلي، أعيش معهم، أو أموت معهم». أوفى الفنان محمود مرسي بوعده ذاك.

وترك عمله في هيئة الإذاعة البريطانية، بعدما أعلن استقالته منها على الهواء مباشرة، وعاد إلى القاهرة، ليلتحق بالمقاومة الشعبية، التي كانت قد بدأت في مدن القناة، صداً للعدوان الثلاثي على مصر 1956.

تذكرت تلك الواقعة أثناء متابعة الإجراءات التي اتخذتها فضائية «بي.بي.سي»، مع «غاري لينكر»، بوقفه عن العمل ثم إعادته، برغم أنه يقدم بها أشهر برنامج رياضي «مباراة اليوم».

ويعمل في هيئة الإذاعة البريطانية منذ عام 1999، ويكتسب شعبيته من كونه لاعب كرة قدم سابقاً، عُرف بمهارته داخل الملاعب كأشهر الهدافين البريطانيين في مباريات كأس العالم، وخارجها كمعلق رياضي يحظى بشهرة واسعة. وبسبب مهاراته تلك، يتابع برنامجه وتعليقاته على وسائل التواصل الاجتماعي جمهور واسع النطاق، بلغ أكثر من ثمانية ملايين شخص.

وربما يكون هذا هو السبب وراء القرار السريع لإدارة القناة بإعادته للعمل بعد وقت قصير من إيقافه. ولعل ملابسات مشكلته أن تقدم دليلاً جديداً على عدم صدق ما تشيعه الهيئة البريطانية عن نفسها، بأنها تمتلك معايير مهنية محايدة ومستقلة.

التهمة التي أوقف بها «لينكر» عن العمل، تعود لتغريدته على «تويتر»، نقداً لمشروع قانون للحكومة البريطانية لمواجهة الهجرة غير الشرعية، وحظر حق اللجوء للأشخاص الذين يدخلون الأراضي البريطانية بطريق غير قانوني.

اعتبر لينكر أن المشروع «سياسة قاسية، تستهدف الأشخاص الأكثر ضعفاً، بلغة لا تختلف عن تلك التي استخدمتها ألمانيا في الثلاثينيات من القرن الماضي». ورداً على أصوات منتقديه من الحكومة ومن صحافييها، قال لينكر إنه سيواصل المحاولة، والتحدث نيابة عن النفوس المسكينة التي لا صوت لها.

وكانت الدهشة حاضرة، وإدارة القناة تؤكد له وهي تجري معه مفاوضات العودة «حاجة الهيئة لأن تبقي محايدة». من قال غيرك إنك محايدة؟!

قبل فترة، أجرت معي «بي.بي.سي» حواراً حول مصادرة أحد أعداد الصحيفة الأسبوعية التي أرأس تحريرها، وكان الحديث يجري حول أسباب تلك المصادرة.

وكان مفهوماً أن القناة تبحث عما يسند خطها الواضح، ليس فقط في الهجوم على ما تسميه «انقلاب الجنرال السيسي على حكم ديمقراطي منتخب»، كان يستعد بالإرهاب والمتاجرة بالدين، لإعلان مصر إمارة إسلامية، ولكن أيضاً على التحالف العربي الذي تشكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات، لمساندة مصر لتحقيق استقرارها.

في نهاية الحوار، سألتني مقدمة البرنامج، لماذا تنطوي مقالاتي على نقد دائم للقناة البريطانية، فأجبت بما سبق، وأضفت أن ثمة اختراقاً واضحاً لجماعة الإخوان لبرامج القناة وتقاريرها الإخبارية، يتبنى وجهة نظر الجماعة، في ما يتعلق بقضايا السلطة والحكم في الدول العربية.

تمت إذاعة الحلقة، بعد حذف الكلام الذي يتهم الـ «بي.بي.سي» بأنها تروج لجماعة الإخوان، وأنها لا مستقلة ولا محايدة. وبطبيعة الحال، لا توجد وسيلة إعلامية محايدة، فتلك خدعة يروجها الإعلام الموغل في انحيازاته.

لكننا نبحث في تلك الوسائل الإعلامية عن الموضوعية والصدق، والبعد عن تلفيق الوقائع، أو إخراجها من سياقها، أو تبريرها لخدمة أهداف من يقومون بتزويرها دفاعاً عن مصالحهم.

ولعل الذكرى العشرين للغزو الأمريكي - البريطاني للعراق، تعيد فضح المبررات المفبركة التي ساقها التحالف الغربي، وزعم خلالها امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وتحالف نظامه مع تنظيم القاعدة، الذي نُسبت إليه تفجيرات سبتمبر الشهيرة. وقد انتهت تلك الأكاذيب بتحطيم واحدة من أكبر الدول العربية وأغناها، ونهب ثرواتها، وإدخالها في أتون حرب أهلية مذهبية، ما إن تهدأ، حتى تعاود الانفجار.

تأسست هيئة الإذاعة البريطانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، عام 1922، من قبل وزارة الخارجية البريطانية، لكي تدافع عن الإمبراطورية البريطانية الغاربة، وتبرر مصالحها الاستعمارية، كدولة احتلال في عدد من بلدان المنطقة العربية، بعدما ورثت اتفاقية سايكس - بيكو النفوذ العثماني بها، وقسمت دولها بين فرنسا وبريطانيا، ورسمت حدودها القائمة.

لن تنقصه الأدلة على غيبة النزاهة، ناهيك عن الحياد، من يتأمل المقدمة التصويرية –الإنترو – في بداية نشرات أخبار «بي.بي.سي»، كي يلحظ بفزع النظرة الدونية الاستعمارية.

والاستعلائية لكاميرا القناة، التي تختزل حقائق منطقتنا وواقعها الراهن، في مشاهد الخراب والحروب والدمار والبؤس، لتوحي لمشاهديها، بأنها ليست غير ذلك.

وتلك سمة رائجة للتزوير البريطاني لتاريخ تلك المنطقة. «غاري لينكر» لن يكون آخر ضحايا المزاعم الملفقة، التي تباهي بحرية التعبير والصحافة والإعلام في غرب يحفل بالعنصرية، وبإرث استعماري يتجلى في سياساته وإعلامه.

* كاتبة مصرية

Email