الكذب في الأخبار الجاذبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعض الأمثال المتداولة أصبح مدلولها المباشر غير ماثل أمام الناس، فتوارت عن السمع، وهو أمر طبيعي فالمثل يصاغ بالأساس لتقريب معنى بعيد، أو غير مرئي، بشبيه أو مماثل له قريب وملموس لدى عامة الناس، وقطعاً أولئك الذين لا يستسيغون الخبز، أو لا يعرفونه على مائدتهم، لن يقدروا قول من ينصحهم بأن يعطوا الخبز لخبازه.. وهم لا يشغلهم أساساً إن توافر الخبز أو أحرقته نيران الخباز الهاوي وأتلفه تضاؤل خبرته بمقادير عجينته.

وعلى منوال الأمثلة الشائعة التي ندر تداولها في زمننا هذا، لندرة تمثلها بالفعل في حياة الناس، «الجواب يُقرأ من عنوانه»، وهو مثل شعبي متداول في مختلف بيئاتنا العربية، بلهجات أو كلمات موازية تحمل المعنى نفسه، أشهرها بالعامية المصرية «الجواب بيبان من عنوانه».

انسحب هذا المثل الذي كان كثير التداول على ألسنة الجميع، صغاراً وكباراً، مثقفين وسياسيين، مبدعين ونقاداً، إعلاميين وقراء ومشاهدين ومستمعين، وكان يختزل حقيقة ملموسة مفادها أن المقدمات مؤشر على النتائج، وأن بداية كل شيء ومستهله تنبئ بما ستحمله التفاصيل والنهايات، وأن المهمة التي يبدأها صاحبها باعتذار وتخاذل وتهاون، مآلها الفشل، والعكس حينما تكون البدايات مصحوبة بوفاء وبذل وجهد فإن التوفيق والنجاح هما المصير.

الجواب، والذي هو معادل موضوعي للخبر، أو المعلومة، لم يعد يقرأ من عنوانه، سواء في حياة الناس، أو على منصات التواصل الاجتماعي، أو حتى على الكثير من المنصات المتخصصة في بث أو نشر الأخبار، وأصبحت العناوين المضللة أكثر بكثير من العناوين الهادية، التي تُخبر بالحقيقة.

في هذا السياق ستقرأ عنواناً يتساءل، هل انفصلت الفنانة فلانة عن زوجها؟، وهو عنوان سواء صادفك أم ضل اصطيادك، لا يحمل لك أي مدلول، وينطبق على أي امرأة متزوجة، بل ويشير إلى غياب أبسط مقومات الخبر الصحفي وهو المعلومة الصحيحة موثوقة المصدر، وقد تقرأ أيضاً عنوان، «هذه فوائد شرب الحليب الساخن»، ولن يختلف اثنان بالأساس أن ثمة فوائد للحليب ساخناً كان أم بارداً، ومنطقياً هناك مزايا صحية أو حتى موانع قد تصاحب الحالتين، وقد تقرأ أن فلاناً قاتل مأجور، لتجد في التفاصيل أن الأمر يتعلق بدور تمثيلي.

هذه النوعية من المحتوى التي يغيب فيها صدقية العنوان ودوره في الإنباء والإحالة والارتباط المهني بالمحتوى، في حالة الأخبار في وسائل الإعلام، تحمل نوعاً من التمويه المضلل الذي قد يصل إلى حد الكذب على المتلقي، والتغرير به، والتضحية بقيمة المصداقية، لأغراض بعيدة عن المهنية، وهي قطعاً لا تمت بصلة لسمة التشويق المطلوب تحقيقها في العنوان، ولو أن صائغه بذل فيه الجهد المناسب لأهمية العنوان في الخبر الصحفي، لتمكن من إنجاز عنوان مناسب، وفي حال عجزه عن ذلك مع توافر الأدوات المهنية لديه، فالمحتوى إذن لا يستحق النشر، والقارئ أو المتلقي لا علاقة له بصالح أي جهة ستستفيد من كبسة زر إضافية، قد تسهم في نقله لقوائم الأكثر قراءة، وما يرتبط بها من إحصاءات تفيد جهة النشر، وحينما تنجح هذه الحيل مرة في تمرير ما لا يستحق الاطلاع، فإن تكرارها حتماً سيطمث مرات أكثر أخباراً جاذبة كانت تستحق التوقف عندها، لولا أن الخبر، كما الجواب، لم يعد يقرأ من عنوانه.

Email