رغم أن هناك من يقول إن التاريخ الشفاهي ظهر في الغرب أولاً خلال منتصف القرن الماضي، إلا أنه كما هو واضح فإنه ضارب العمق في مسيرة الإنسان كما أنه يعتبر حبكة وصفة عربية بامتياز لا مثيل لها في أي أمة من أمم الأرض، ويكفي أن نلقي نظرة على مسيرة الشعوب العربية سواء فيما يعرف بالعصر الجاهلي حتى الإسلام وما جاء بعد هذه الحقبة من قيام دول متتابعة مثل الأموية والعباسية وغيرها، فالعربي اعتمد كلياً على المشافهة، بل كان يعرف أن الذين يقرؤون ويكتبون كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، وكان العرب يعتمدون على الذاكرة في حفظ القصائد العربية ويكفي أن نشير إلى المعلقات الشعرية التي حفظت في العقول، وبالتالي فإن القصص أو وصف الحروب والمعارك أو حتى وصف البلدان والديار تم نقلها لنا وفق ما يعرف اليوم بالتاريخ الشفاهي.
إذن ما هو هذا التاريخ؟ لقد وضع الكثيرون تعريفات متعددة والبعض وضع شروطاً وضوابط له، لكن من أشهر هذه الأقوال ما قاله المؤرخ ثادسيتون في سياق تعريفه للتاريخ الشفوي: «إنه ذكريات وتذكرات أناس أحياء حول ماضيهم». وهذا التعريف رغم اختصاره إلا أنه مباشر وواضح، وقد أكد الكاتب عمار السنجري في كتابه بعنوان (التاريخ الشفاهي في دولة الإمارات العربية المتحدة) أن الروايات الشفاهية لا تقل أهمية عن رأي مؤرخ يستمد معطياته التاريخية من الوثائق والتاريخ المكتوب عن الفترة ذاتها قد يكون الذي دونها ليس من أبناء المنطقة، وأنا أتفق معه في هذا السياق، لا يمكن أن نغفل الدور الكبير والخطير الذي قام به هذا التاريخ في نقل كثير من إرثنا الحضاري والمعرفي على الأقل منذ ما يقارب الألف وخمسمئة عام، لذا فإن رفض هذا النوع من التاريخ هو رفض لأرث عظيم من المعلومات والأفكار والأحداث والقصص العظيمة.
كثير من علماء التاريخ منذ زمن طويل جداً أخذوا بل وعملوا به، ولعل من أهمهم المؤرخ اليوناني هيرودوت (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد)، والذي أطلق عليه «أبو التاريخ»، والذي حرص على جمع القصص حول الماضي وتفحص الآثار عند تجواله ورحلاته، حيث كان يقابل الناس ويدون قصصهم وذكرياتهم عن بعض الأحداث التي وقعت.
التاريخ الشفاهي، بات ثقافة وعلماً له أسس وطرق، وهذا ما ذهب له الدكتور ناصر بن علي الحميري، في ورقة علمية، بعنوان: «أساليب وطرق الجمع الميداني في مجال التراث والتاريخ الشفاهي»، حيث وضع وصفاً وأطراً، كما عرفه وتطرق لموضوعاته وسماته وأيضاً ما يجب أن تتوفر في الراوي والباحث، والدكتور الحميري، يضع هذه الرؤية العلمية لأنه يتمتع بخبرة طويلة، وهذا يعود إلى اهتمامنا في الإمارات بهذا المجال – التاريخ الشفاهي – هذا العلم القديم الحديث، وأعتقد أنه وبدعمه والعمل على تطويره، سنحقق المزيد، وشواهد هذا الاهتمام وجود قطاعات حكومية أخذت على عاتقها العمل ليكون هذا المجال مؤسساتياً مثل وحدة التاريخ الشفاهي التابعة لإدارة البحوث والخدمات المعرفية في الأرشيف والمكتبة الوطنية والتي قامت بعمل لقاءات وتسجيلها مع كثير من الشخصيات الكبيرة في السن وحفظها وتدوين ذكرياتهم عن المنطقة والأحداث والمواقف.
التاريخ الشفاهي، يصح أن نقول عنه أننا نقوم بتجديده وإعادة بعثه ليتواكب مع روح العصر وتطوره، وكم هو جميل أن يكون الإنسان العادي هو المؤرخ وهو الذي ينقل القصص للأجيال القادمة ودون شك أنه تاريخ من الإنسان للإنسان.. نريد فقط أن تستوعب عقليتنا الثقافية هذا البعد الإنساني، ونحافظ على ريادتنا ليس في العالم العربي وحسب وإنما على مستوى العالم بأسره في الاهتمام ورعاية واستخدام هذا العلم – التاريخ الشفاهي – لتبقى ذاكرتنا متوهجة جيلاً بعد جيل بتاريخ بلادنا وقصص كفاح الأجداد والآباء لتدوم هذه النهضة وتستمر مسيرة التطوير الحضاري، وتحفظها الذاكرة، ونكون قد نجحنا في بناء جسر متين بين الماضي والحاضر ولنتخطى المستقبل بتفوق، وفي ظني أن هذا الذي سيكون حليفنا القوي في أي تحدٍ سنواجهه مستقبلاً.