المواساة والغرض المنسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعيش الإنسانية منذ فجر الاثنين تقريباً حالة مواساة وتعاطف ودعم واضحة مع أبناء الشعبين السوري والتركي عقب الزلزال المدمر، الذي خلف آلاف الضحايا، فترك أمهات ثكالى، وأبناء يتامى، وأخوة وأحباء مكلومين، وأسراً في العراء، لحافها السماء، وبيوتها الطرقات والأزقة، وخيام الإغاثة والكوارث والنكبات.

حالة المواساة والتلاحم الوجداني والعاطفي بين البشر، كل البشر، وجميع المنتسبين للإنسانية، هي حالة أصيلة، تزداد قطعاً بين الأخوة، لكنها في الوقت ذاته تصيغ دائرة أوسع لمفهوم الأخوة، وعلى مر التاريخ، ومثلما تسجل وقائعه حالات صراعات مريرة على ثروات وخيرات الطبيعة، فإنها تسجل أيضاً تكاتفاً وتعاوناً مشتركاً من أجل احتواء غضبها، والحد من الأضرار التي تخلفها ظواهرها القاسية.

الكلمة، التي قالوا فيها إنها «نور»، ووصف بعضها بـ«القبور»، هي مقوم مهم من مقومات العطاء، والتأثير، وصناعة الموقف والإفصاح عنه وتمثله، وهو ما يفسر القيمة المهمة التي اكتسبها الشعر خصوصاً وتأثيره لقرون، في محيطنا العربي، وتواصل تأثير الكلمة بأشكال وقوالب وصيغ عدة، من زمن الأسطورة والحكاية الشعبية والقصة، إلى القصة القصيرة، فالرواية، وتبادل مراكز التأثير بينها، وإنتاج أشكال جديدة، وصولاً إلى المحتوى الإعلامي التقليدي، والحديث المرئي والمسموع والمكتوب، ونتاج محتوى التواصل الاجتماعي بأنواعه.

الميراث الشعري الذي هيمن على «الكلمة» في الأدب العربي، خلَّف مشاعر مرتبطة بأغراضه الشعرية التقليدية، فهناك المئات من القصائد المهمة أو المعروفة في المديح والفخر والغزل، وحتى الرثاء، والذي يختلف قطعاً في مؤداه وهدفه عن معنى المساندة وتقديم الدعم لتخفيف الضرر، وغيرها من الحالات الإنسانية، لكنه ميراث كان شديد الزهد في معنى إنساني مهم، وهو «المواساة»، وأي بحث أولي على شبكة المعلومات الدولية بالعربية، عن محتوى مرتبط بـ«المواساة»، لن تكون نتيجته سوى مواقع أو مؤسسات تحمل الاسم ذاته، أو مقترحات مُعلبة جاهزة للمراسلة عبر تطبيقات التواصل، وبعض الأبيات والأشطر الضعيفة، وكأن جذور الزهد ذاته امتدت أيضاً للأشكال الأكثر حداثة في صناعة المحتوى العربي.

نعم.. الأشقاء والأخوة في كل مكان وقت وقوع المأساة يبقون بأمس الحاجة إلى المساعدات العينية لنجدتهم، لكنهم أيضاً، وبقدر موازٍ بحاجة إلى تضامن بأحرف نورانية تحلق بهم مرة أخرى إلى أفق الأمل، الكلمة النور التي تواسي.. ويلامس ضوؤها شغاف القلوب... وتحفز الفكر على استنهاض الأفعال والمواقف الإيجابية للمواساة، ولا مجال مطلقاً لكلمات تصنع مزيداً من القبور.

Email