هذا ما يتعين على بريطانيا فعله كي تستعيد تفوقها الاقتصادي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بات لصندوق النقد الدولي حضور دائم في أي حديث عن الاقتصاد البريطاني منذ عام 1976، عندما فقدت الدولة ثقتها في الأسواق، وتقدمت إلى الصندوق بطلب الحصول على قرض طارئ. لذا، عندما يتوقّع الصندوق، كما فعل في مطلع الأسبوع الجاري، أن نمو اقتصاد بريطانيا هذا العام سيكون أبطأ من نمو أي اقتصاد متقدم آخر، يتعين علينا أن نتعامل مع هذا التوقّع بجدية.

وبجانب ما تشهده بريطانيا من قلاقل في مختلف الصناعات على نحو غير مسبوق منذ عقود، جاء «بنك أوف انغلاند» ليفاقم مشاعر القلق حيال آفاق أداء الاقتصاد البريطاني، وذلك بعد أن خفض في وقتٍ قريب توقعاته بشأن نمو الاقتصاد البريطاني هذا العام إلى 1%، وهو معدل لم يشهده الاقتصاد البريطاني منذ حقبة السبعينيات من القرن الماضي. التنبؤات لعبة سخيفة.. الاقتصاد البريطاني قد ينمو وقد لا ينمو هذا العام.. الاقتصادان الألماني والفرنسي قد ينموان بوتيرة أسرع منه.. إلا أن المتوقّع أن أياً من الاقتصادات الكبرى في أوروبا لن يحقق نمواً تتجاوز نسبته %1، إنه عالم من الأرقام الصغيرة لن ترضى فيه أي دولة بأدائها الاقتصادي.

اكتسبت إحصائيات الناتج الإجمالي المحلي للفترات الزمنية القصيرة سمعة سيئة باعتبارها غير موثوقة. وعليه، عندما كنت أشغل منصب وكيل أول وزارة الخزانة البريطانية، كنت أفضِّل أن أتجاهل هذه الاحصائيات، وكنت أعمد إلى التركيز على الإيرادات التي نادراً ما تكذب. ربما ضعفت الإيرادات خلال الفترة الأخيرة بسبب التضخم الراهن، إلا أنها لا زالت تشير إلى أن الاقتصاد البريطاني ربما يكون أقوى كثيراً مما يعتقد الكثيرون. ومن شأن التراجع في أسعار الطاقة أن يعزز هذه الإشارات الإيجابية. ولا يزال لدى بريطانيا الكثير مما يتيح لها إثبات ذلك. فعلى سبيل المثال، لديها مُدُن جامعية قوية، قاعدة بحثية مُزدهرة، صناعات إبداعية هائلة وقطاع مالي يصعب أن يُصيبه الوهن. وعلاوة على كل ما سبق، وبعكس ما كان الحال إبان الأزمة التي واجهها الاقتصاد البريطاني في سبعينيات القرن الماضي، فإن بريطانيا تتمتع بسوق عمل شديدة الديناميكية. وعليه، فيتعين علينا ألا ننساق وراء مشاعر الاكتئاب على نحو مُبالَغ فيه.

لا يُمكننا إنكار أن بريطانيا تواجه مشكلة، ولا يزال ريشي سوناك، رئيس الوزراء، وجيريمي هانت، وزير الخزانة، يجمعان الشتات المتبقي من الإرث الكارثي اللذان ورثاه عندما توليا منصبيهما. ولكي ينجحا في استعادة المصداقية للأداء الاقتصادي لحزب المحافظين، يتعين عليهما انتهاج سياسة مالية أكثر تشدداً مما كان سيحدث في حال عدم تولي ليز تراس منصب رئيس الوزراء لفترة كارثية وجيزة قبل سوناك. وفي الوقت نفسه، يجب على «بنك أوف انغلاند» أن يُبقي على سعر الفائدة مرتفعاً لفترة أطول، ذلك أنه قد تركه منخفضاً أكثر من اللازم في عام 2021. من شأن سياسات الاقتصاد الكلي السليمة أن تستعيد لبريطانيا نموها الاقتصادي اللائق على المدى القصير، ولكن الاستقرار له ثمن يتعين سداده، ألا وهو اتخاذ موقف صارم والتعامل مع الأزمة بحزم.

وثمّة وقفة شديدة الأهمية يتعين في هذا السياق الوقوف عندها، فيما يخص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، فإن العديد من مشاكل بريطانيا السياسية تسبقه، إلا أن ثمّة دليلاً قاطعاً أنه أدى إلى بطء الأداء الاقتصادي، ذلك أن نمو التجارة الخارجية لبريطانيا بات أبطأ كثيراً من ذي قبل. وعلاوة على ذلك، فإن الاستثمارات الأجنبية المباشرة باتت أقل تدفقاً إلى بريطانيا على النحو الذي أفقدها مكانتها السابقة كوجهة رئيسية للدخول إلى السوق الأوروبية الموحّدة. وفي عالم حمائي تُهيمن عليه التكتلات الكبرى، تجد بريطانيا فيه نفسها منعزلة. ويتعين أيضاً الإشارة إلى عيب آخر شديد الخطورة، وهو أن القطاع العام في بريطانيا بات أقل كفاءة، كما بات يعاني تدنياً شديداً في رواتب موظفيه. وعندما اندلع التضخم في مطلع العام الماضي، عمدت الحكومة البريطانية إلى مواجهته بفرض المزيد من التخفيضات على الرواتب الفعلية التي يتقاضاها موظفوها، وهي سياسة أثبت التاريخ أنها لا يمكن أن تستمر بنجاح على المدى الطويل.

يتعلق الأمر بإصلاحات هيكلية في الحكومة وأدائها، ويتعين على الساسة فهم ذلك والتصدي بكل حزم لمهمة تنفيذ هذه الإصلاحات، كي تستعيد بريطانيا تفوقها في الأداء الاقتصادي على جيرانها كما كانت تفعل في غالبية الفترات على مدى العقود الأربعة الماضية.

 

* وكيل أول وزارة الخزانة البريطانية الأسبق

المقال منشور في صحيفة «فاينينشال تايمز»

Email